- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
بكر أبو بكر يكتب: حين تعبث السياسة بالتاريخ
بكر أبو بكر يكتب: حين تعبث السياسة بالتاريخ
- 26 يونيو 2022, 3:51:34 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من الواضح ان التاريخ يكتبه المنتصرون، وأحيانًا ما يكتبه المظلومون، ولا بد للكذابين والحاقدين والمتعصبين أيضًا من رواية، فيزيحون –الثلاثة أصناف ألا من رحم ربي-الكثير من الأحداث عن حقيقتها، ويؤولون ويزوّرون ويفترون، بل واحيانًا ما يجعلون من الأساطير والأماني والأحلام ملح أيامهم[1] فينتصرون للفكرة ومصلحتهم على حساب الحق والحقيقة، أويعينون الظالم على ظلمه، خوفًا أو طمعًا ومنهم أولئك الذين يعتبرون ما ينطق به السلطان دُرًا منثورًا فيشيدون حتى بخطايا الحاكم بدلًا من أن يتبعوا قول رسول الحق بشجاعة الكلمة حين قال “أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائر”ٍ.
ومن هنا يصعب على الباحث الأمين وذو العقل والمنهج الرشيد أن يفصل بين الأخبار الكثيرة الوادرة، في أيها تكمن الحقائق الا إن امتلك عقلًا مرجعيًا وجرأة في الحق وشجاعة أدبية ومنهج بحثي رصين يقوى ساقيه فلا تزل قدميه ولا يلين عقله.
إن سبب هذه المقدمة هو أنني نشرت منذ فترة قريبة وضمن سلسلة مقالات عن شخصيات صهيونية أسهمت في التمهيد او التأسيس للكيان الصهيوني والتي كان من بينها موسى مونتفيوري وهي الشخصية التي لقيت الاهتمام أكثر من غيرها مما لم أتوقعه حيث وصل عدد المشاهدين للمنشور-بعد أن تم تنبيهي- لأكثر من 25 ألف شخص، عدا عن عشرات المشاركات والتعليقات المتضادة.
اتصلت أحدى الاخوات المتابعات لموقعي على “فيسبوك” لتشيروتنبّه للعدد المتكاثف الذي علق على المقال بشكل متحامل كما قالت، أو شاركه، والمقال حلقة من حلقات. وأبدت العجب الشديد بحيث أن حلقة بالمرستون وحلقة هرتسل نفسه لم تأخذ الاهتمام كما الحال مع مونتيفيوري المغمور نسبة لهرتسل فعُدت للمقال لأوليه العناية الأكبر ولاوضح ما اتخذ مسربًا مختلفًا عما قصده المقال.
الفكرة التي لقيت هذا الاهتمام الشديد ليس شخصية الرجل، وما صنعه للصهيونية او اليهود بأمواله وعلاقاته بل هي فكرة دور حاكم مصر آنذاك محمد على في الاستيطان الصهيوني، وفكرة دور العثمانيين فيها مما أشير له بالمقال بشكل ما، فبدأ الكارهون للطرفين يتراشقون الاتهامات ما نالني منها نصيب .
محبو فكرة “الخلافة” بعجرها وبجرها يميلون للتنزيه سواء للفكرة أو للسياسيين على سدة الحكم على اعتبار أنهم كلٌ واحد ومتساوي مع الاسلام ذاته! أي باسقاط القداسة. وكارهوها يميلون للتشفي والطعن بالفكرة والدين والسلاطين بلا تمييز، وفي كليهما تنسحب الحقيقة عن موضعها. وكذلك الأمر فيما يتعلق بدور محمد على باشا لذا عدت الى المقال المذكور عدة مرات وبعد عدة مراجعات مضنية لأوضح ، ومما كتبته توضيحا التالي:
استطراد هام ومضاف على هذه الحلقة في 24/6/2022م، و لابد منه: يورد الكاتب خالد أبوهريرة في موقع تركيا الآن[2] -استطرادّا لما سبق- وعلى العكس من الكتابات التي تقول بتعاطف محمد علي باشا مع المسألة الصهيونية، حيث يذهب المؤرخ المقدسي عارف باشا العارف إلى أن واحدة من أبرز حسنات الحكم المصري في الشام بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي، كانت التصدي للحلم الصهيوني بإنشاء “إسرائيل” فوق التراب الفلسطيني، حيث رفض محمد علي طلب موسى مونتيفيوري رفضًا قاطعًا.
ومما ذكره أبوهلال في نصه أن المؤرخ اليهودي “إيلي ليفي أبو عسل” في كتابه (يقظة العالم اليهودي)، كان قد صور لقاء مونتفيوري بمحمد علي في القاهرة، بشكل يوحي بموافقة الباشا على مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، ولكن يقدم عارف باشا العارف في كتابه (المفصل في تاريخ القدس) قراءة عكسية لرواية ليفي أبو عسل المزيفة رغم عدم عنايته أصلا بتفنيدها أوالرد عليها، فيقول: «من أفضل حسنات ذلك العهد (حكم إبراهيم باشا لفلسطين)، كانت الحيلولة دون مطامع الصهيونية، والوقوف في وجهها. يتابع عارف العارف مستعينا بوثائق المحكمة الشرعية في القدس التي نشرها المؤرخ اللبناني العلامة أسد رستم: «ولكن محمد علي باشا الذي استشار ولده إبراهيم باشا في هذا المشروع رفضه رفضًا باتًا. ولقد اطلعنا في (مجموعة الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا) لجامعها الدكتور أسد رستم على الأمر الحكمداري الذي يورده نصًا (وارد في مقال أبوهلال). المرسل من مصر إلى متسلم القدس، ومنه يفهم أن اليهود أرادوا يومئذ أن يسمح لهم بشراء الأراضي إلا أن الأهالي (الأبطال العرب في فلسطين) مانعوا في ذلك، وأيدهم في رغبتهم مجلس الإدارة، والحكومة المركزية.
أما عن كل هذه الدعوات الصهيونية الفكرية او الدينية أو الاستعمارية أوالاقتصادية …الخ من محاولات يهودية لاستعمار فلسطين ففيها يقول الباحث مصطفى أمين في دراسته المعنونة إستراتيجيات بناء المستوطنات في “إسرائيل” (1/3)[3] أنها: كانت في مجملها مجرد دعوات فردية، ولم تستند إلى دوافع قوية لتجسدها على أرض الواقع، وتجعل منها واقعًا ملموسًا على أرض فلسطين، ولم تكتمل هذه الدعوات بالتطبيق إلا عقب المؤتمر الصهيوني الأول وتبني اليهود لقيام دولة يهودية في فلسطين.
وقلنا ردًا على الآراء المتقابلة بل والمتعارضة في هذا المقال التالي: توضيحًا لدور العثمانيين في فلسطين وردًا على الحوارات الملتزمة (بالحقيقة وغير الملتزمة أيضًا). وحسب الوثائق ما سنورده بالمقالات القادمة التالي: لم يكن هناك إقرار عثماني بقيام او الموافقة على “وطن” او”دولة” صهيونية لليهود بتاتًا. ولكن حصل تجاوزات موثقة لا تحسب على مجمل سياسة الدولة العثمانية أي تجاوزات فردية أو امتيازات خاصة، تمامًا مثل القلة الضئيلة من العرب الفلسطينيين التي باعت بعض أراضيها بما لايزيد عن 1٪ من مساحة فلسطين و5٪ ما سرقته بريطانيا عمدا لليهود بمجمل 6٪[4] أي حافظ الفلسطينيون رغم الضعف على 94٪ من أرضهم حتى النكبة عام1948م.
بنفس المعنى لم تشكل الاراضي التي تسربت بشكل شخصي أو فرمانات محدودة ايام العثمانيين لم تشكل مساحة ذات أثر كبير كمساحات، ولكنها حصلت نتيجة ضعف الدولة العثمانية والضغوطات وأحيانا في سياق عدم ادراك الخطر (القرن19اساسا) ونتيجة خداع الاوربيين ويهود اوربا…، والا من اين جاءت المستعمرات منذ العام 1881 م. رغم ذلك يحسب للدولة العثمانية رغم التسرب وبعض الفرمانات الخاصة وعند اكتشاف خطره العمل على منعه. وكلام السلطان اللاحق بحق عدم التنازل عن فلسطين لليهود واضح وموثق. هكذا هو الأمر. بوركتم.
هوامش هامة:
[1] أنظر إسرائيل فنكلستاين في كتابه التوراة مكشوفة على حقيقتها، واحمد الدبش في القدس التااريخ الحقيقي، وفاضل الربيعي في فلسطين المتخيلة، وشلومو ساند في اختراع أرض إسرائيل، واختراع الشعب اليهودي….الخ.
[2] مقال الكاتب خالد أبوهلال عام 2021 في صفحة تركيا الآن، المعنون: قبل إعلان “إسرائيل” بمائة عام.. كيف واجهت مصر الأطماع الصهيونية في فلسطين؟
[3] مصطفى امين، دراسة إستراتيجيات بناء المستوطنات في “إسرائيل”، ج1، المركز العربي للبحوث والدراسات، 2013م.
[4] في تقديرات دراسات أخرى تصل النسبة الى 8% ما تم تصليحها وفق دراسة د.محسن محمد صالح الى 6% .