- ℃ 11 تركيا
- 7 نوفمبر 2024
بشير الوندي يكتب: مباحث في الاستخبارات.. صناعة التنظيمات المسلحة
بشير الوندي يكتب: مباحث في الاستخبارات.. صناعة التنظيمات المسلحة
- 15 نوفمبر 2021, 10:27:28 ص
- 1242
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لعل من اخطر واعلى المنتجات الاستخبارية المعادية هو انتاج التنظيمات المسلحة في قلب البلد المستهدف , وهي عملية معقدة وتأتي بخطوات مدروسة يتم فيها تهيئة البيئة والارضية المناسبة لبروز التنظيم المسلح الذي يكون بمثابة طرف السكين , فيما يكون المقبض بيد الجهاز الاستخباري الذي صنع وهيأ وخطط , الا ان المنتج الاستخباري للتنظيمات المسلحة لا يعني ان اي فصيل مسلح هو بالضرورة من صنع الاجهزة الاستخبارية الاجنبية , ذلك ان هنالك حالات تتولد فيها حركات تحررية مسلحة تصارع الأنظمة القمعية الدكتاتورية وتسعى للاستيلاء على السلطة وانهاء الحقبة الدكتاتورية في بلدانها بقوة السلاح .
صناعة العنف المسلح
لاشك ان اي جهاز استخباري محترف يسعى بكل السبل لأضعاف او اسقاط البلد الذي يستهدفه او البلد العدو , وتكون اعلى النجاحات لدية في اسقاط نظام الحكم المعادي والاتيان ببديل متعاون معه .
ولعل نصف دول العالم مبتلاة بحركات مسلحة مهما تنوعت وتعددت اهدافها , كما في افغانستان , باكستان , الهند , السودان , ليبيا , تركيا , ايران , سوريا , لبنان , العراق , اليمن , الجزائر , فلسطين , دول افريقيا , دول امريكا اللاتينية , دول الاتحاد السوفيتي السابق كأذربيجان وارمينيا , ولايقف الامر على الدول المتخلفة او العالم الثالث , فقد ابتليت اوروبا بالحركات المسلحة كما في ثوار الباسيك في اسبانيا والجيش الايرلندي السري في بريطانيا وكما في التنظيمات التي نشطت ضمن صراع الحرب الباردة كالالوية الحمراء في ايطاليا وكما في الجيش الاحمر الياباني وغيرها .
فمن الطرق التي تبدع بها الأجهزة الاستخبارية المحترفة هو في انتاج تنظيمات مسلحة من أبناء البلد المستهدف تمدها بالسلاح والمال والخبراء , وتسعى من اجل ان تنمو تلك التنظيمات وتساهم في اسقاط نظام ما او في تشتيت انتباهه ومنع استقراره .
ان انتاج مليشيا في البلد الهدف هو من اعلى حالات التاثير في الصراع الاستخباري واكثره عنفا وتصاعداً , فهو يعبر عن تكامل السيطرة الاستخبارية وايجاد خاصرة رخوة في البلد الهدف تخدش امنه و تضعف مكانته السياسية , فصناعة المجاميع المسلحة هو جهد استخباري مغلظ يهدف الى الاطاحة او ايجاد الفوضى او خلق توازن او اشغال او فرض منطق الجغرافيا غير الآمنة.
خطوات الانتاج والسيطرة
ان صناعة المجاميع المسلحة صناعة استخبارية دقيقة تقوم على مراحل وتوقيتات , وغالباً ماتبدأ الخطوات تلك مباشرة بعد محاولات الاطاحة السلمية الناعمة بوسائل عديدة عبر منظمات وتظاهرات واعتصامات وتمرد , فعندما تفشل الاطاحة الناعمة ويستوعبها النظام عبر اجهزته الامنية الخشنة (من قبيل قتل محتجين او سلسلة اعتقالات واعدامات ) , حينها تدخل الاستخبارات المعادية على الخط بشحن ردود الافعال الشعبية المعاكسة والباسها بلباس شرس وتدميري من خلال تهييج الجماهير , ومن ثم تكون النتيجة الحتمية بفعل حكومي اعنف وبردود افعال جماهيرية اشرس حتى تصبح للعملية الاستخبارية قدرة دفع الامور الى الامام بسهولة من خلال ذريعة ان الحل في رفع السلاح , فتتم الاثارة والدعم لتشكيل خلايا مسلحة بطريقة واسلوب التجنيد الثاري الانتقامي.
وفي كثير من الأحيان تعمل الاستخبارات المعادية على افشال محاولات الحلول الوسط بين السلطة والشعب والعمل على دفع الأمور الى التشنج ونقطة اللاعودة من خلال عمليات إجرامية مفتعلة ضد الجماهير وتنسبها الى السلطة الحكومية المستهدفة عبر ماكينات إعلامية مدربة بالاضافة الى شحن الأجواء بالشائعات .
وحين تتشكل نواة التنظيم المسلح , تقوم اجهزة الاستخبارات الاجنبية بضخ البناء الفكري وقولبته للتنظيم المسلح الوليد وتصنع له اعلام وقيادة وسيطرة ودعم لوجستي وتطلق له العنان من خلال الوصل الجغرافي او من خلال بلد ثالث , وحينها ينمو التنظيم المسلح بعد ان يحصل على تعاطف البيئة التي ينتمي اليها اجتماعيا داخل البلاد (كقومية او طائفة معينة) وصولاً لانتاج بيئة محاربة ضد النظام.
وتزداد فرص النجاح في انتاج التنظيم المقاتل من خلال تطوير نفوذ العملاء على الارض , وتكوين لوبيات سياسية واقتصادية , وانتاج وتضخيم مظلومية جانب عقائدي او عرقي او قومي او طائفي , لتتكلل الجهود الاستخبارية لاحقاً بانتاج قوة مسلحة تقف بوجه النظام المستهدف ومطالبة برأس النظام.
ان الجهة الاستخبارية التي تؤسس جهازا سرياً مسلحا كفصيل مسلح لابد من ان تحكم سيطرتها عليه بعدة اساليب منها انتاج قيادات موالية وضخ الاموال , وتوريط القيادات بجرائم ضد شعبها , وايجاد اثنينية في هرم القيادة من اجل احكام السيطرة , فهي لا تعطي سيطرة تامة لشخص واحد بل لعدة اشخاص لتكون كلها متصارعة على الولاء , فتجد في التنظيمات المسلحة ان هناك دوماً قيادتان او تنظيمان او توجهان يستحدثهما المشغل للتحكم من خلال التنافس.
كما ان اعتماد التنظيم المسلح على جهة او دولة ما بشكل كامل يجعله عرضة للمساومة عند اول منعطف , الامثلة عديده ومعاصرة فشاه ايران كان يدعم الحركة الكردية المعارضة في العراق , لكن ما ان حصل على شروطه في اتفاقية 1975 مع العراق ترى انه انهى دعمه وباع الحركة الكردية لنظام صدام دون ان يلتفت لمصير افرادها وقياداتهم.
وهنا نرى ان حتى حركات التحرر الوطني تضطر الى البحث عن داعم لجهودها وممول لعملياتها وموفر لمأواها ولجرحاها , فالعمل العسكري مكلف ومرهق , والفارق ان الحركات التحررية تسعى الى اهدافها عبر طرق نبيلة وتبحث عن مشتركات فكرية مع داعميها .
انواع التنظيمات المسلحة
ان ما يعرف بالمليشيا او التنظيم المسلح هو مجموعة تحمل السلاح وتنتظم ضمن تشكيل سري تقاتل حكومة البلد او عدة دول في وقت واحد , بغض النظر ان كانت حركات ارهابية او تحررية او ثورية متشددة او انفصالية .
وهنالك اتجاهات مختلفة للتنظيمات المسلحة , فمنها من يريد تحرير بلدة من احتلال , ومنها تقاتل حاكم مجرم , ومنها من تريد فرض فكرة او دين او معتقد , ومنها من يأخذ اتجاه اجرامي ويتحول الى مافيا , ومنها يبقى في حدود عمليات سرية فردية , ومنها حركات تحرر ذوات افكار عابرة وعالمية , ومنها ماله تأثير دولي واخرى اقليمي واخرى محلي.
ويمكن ان نقسم التنظيمات المسلحة الى عدة انواع , فمنها الحركات التحررية التي تسعى الى خلاص بلدانها عبر نضال وقتال مرير وحفر في الصخر , كما في حالة الكثير من التنظيمات المسلحة التي نتجت من ظلم نظام البعث في العراق , او الجيش الايرلندي السري في بريطانيا , او ثوار الباسك في شمال اسبانيا , او المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية ضد الالمان , او التنظيمات الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي.
ومنها تنظيمات إرهابية (لاسيما الدينية منها) , وتنتجها الدوائر الاستخبارية المعادية وتمتاز بالعنف والتدمير وتخوين كل من يخالفها , وهذه التنظيمات تنتج حواضن قسرية تمارس سلطتها عليها حين تمسك بالأرض لأنها تستهدف ثلاثية المجتمع معاً , أي انها تستهدف النظام والشعب والموروث , لذا فإن هذا النوع غالباً ما يفشل برغم شراسة افراده لانه يستعدي الجميع مجتمعاً وسلطة وعقائد , فيلتف الجميع ضده , وهو ما حصل في العراق حينما كانت القاعدة وداعش تستهدف الجيش والشرطة والشعب معاً , ترى ان الجميع وقف ضدها وساند الدولة في حربها رغم الفساد الحكومي وانعدام ابسط الخدمات , وهذا هو الفرق الجوهري بين التنظيمات الارهابية وبين الحركات التحررية التي تقارع الانظمة وتحتمي بالشعب وتحميه وتنتقم له من وحشية السلطة.
ومن التنظيمات المسلحة الحركات الانفصالية التي تصنعها الأجهزة الاستخبارية لغرض زعزعة نظام ما او لحماية حدودها , كما فعل الكيان الصهيوني في انتاج ميليشيا سمير جعجع في لبنان عند الشريط الحدودي بعد الاجتياح الاسرائيلي في ثمانينات القرن الماضي .
وهنالك تنظيمات مسلحة تنتج عن صراعات دولية تأخذ الطابع الفكري كما في الالوية الحمراء في ايطاليا او الجيش الاحمر الياباني , وهي تنظيمات مثلت فترة الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة الصراعات بين اليمين واليسار الماركسي في اوروبا لاسيما في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
وهنالك تنظيمات تنتجها الحكومات كظهير للجيش وللاجهزة الامنية وتسلطه على شعوبها , ولعل نظام البعث في ادوار حكمه هو من اكثر الانظمة التي تولت صناعة للتنظيمات المسلحة داخل البلاد كالحرس القومي , الجيش الشعبي , المهمات الخاصة , فدائيو صدام , اشبال صدام, جيش القدس , النخوة , فرسان الجبل , سرايا الحزب , وغيرها من النظيمات المتنوعة التي تركت اثرا عميقا في تجذير العنف وعسكرة المجتمع , وهذا النوع من التنظيمات هي تنظيمات مسلحة قمعية .
بنادق للإيجار
من اشهر التنظيمات التي اوجدتها ومولتها الاجهزة الاستخبارية في حقبة الحرب الباردة هو تنظيم القاعدة , حين قررت اجهزة الاستخبارات الغربية والامريكية خصوصاً الاستعانة بالقوة الاسلامية في صراعاتها الدولية , فجاء التعاون الشيطاني بين الاستخبارات الامريكية والسعودية من اجل تمويل الارهاب المسلح تحت شعار الجهاد الاسلامي البراق في افغانستان مما ادى الى كوارث حقيقية وتحول الى صناعة ارهاب دفع العالم كله ثمنها ودفع الامريكان ذاتهم ثمن حماقاتهم .
فقرار صناعة حركة مسلحة في منطقه معينة تسبب بانتشار التشدد في كل مكان حتى يومنا هذا من قاعدة وطالبان وداعش وغيرها من المسميات التي سفكت وقتلت ودمرت و استنزفت طاقات الشعوب وتحولت الى مبرر للقوى الغربية واجهزتها الاستخبارية لاخافة الشعوب والحكام ونشر جيوشها بدعوى مكافحة الارهاب, فكانت بمثابة كارثة قررتها الاستخبارات الامريكية وخططت لها ونفذها الفكر المتشدد وراح ضحيتها الابرياء ونتج عنه تشويهاً عميقاً للدين الاسلامي في العالم.
حين يعينك العدو على نفسه
ان الدوافع التي تبنى عليها افكار صناعة المجاميع المسلحة هي الفوارق الاجتماعية والظلم والحكم المستبد والضعيف والفوضى والاضطهاد القومي والديني والعرقي وانعدام الخدمات وفقدان الامن والعدالة والفساد المالي , فكل تلك العوامل هي عوامل مساعدة على بروز التنظيمات المعارضة , والتي تتحول الى معارضة وتنظيم مسلح حين تُستهدف وتمنع من التعبير وحين تقمع محاولاتها السلمية .
فالبلد الذي يكثر فيه الظلم وتكون حكومته سارقة وفاسدة تعطيك مبرر لدفع الشباب لحمل السلاح , وفشل ادوات التغيير الديموقراطية او الوسائل الناعمة السلمية يقنع الشباب بأن السبيل الوحيد هو خيار السلاح , وعند الوصول الى نقطة مواجهة الحكومة بتنظيمات مسلحة فهذا يعني ان الحلول تصبح صعبة وتدخل البلاد في دواليب الدماء.
وبالرغم من كون التنظيمات المسلحة هي هدف تسعى اية استخبارات معادية لخلقه في البلد الذي تستهدفه , الا ان حماقات حكومة البلد المستهدف يكون لها الاثر الاكبر في اعانة استخبارات العدو على نفسها وتسهيل مهمة العدو, وهو مايحصل في الدول الدكتاتورية ودول الانقلابات ودول الحزب الواحد او الدول ذات الحكم المتخلف والفاسد .
فحين يتجذر الفساد الحكومي والظلم وانعدام الخدمات وتخلخل موازين العدالة وممارسة القسوة المفرطة والاضطهاد الديني او القومي او العرقي او الطائفي , فإنّ تلك العوامل تؤدي الى ظهور المعارضة والتململ الشعبي والتمرد , وهنا تجد الاستخبارات المعادية ان الارض ممهدة لها في تنمية وتهييج هذا الغضب المشروع وقولبته ودعمه باتجاه المصادمة من خلال الاحتجاجات الناعمة وتغذيتها.
وحين تكون ردود افعال النظام وحشية بالتصدي العنيف والاعتقال والقتل والاغتيالات والاعدامات امام الهياج الشعبي السلمي، او امام الاعتراض السلمي او اي نوع من المعارضة , فحينها تصبح الارضية ناضجة للجهاز الاستخباري المعادي في اقناع الاطراف الشعبية المتضررة والمظلومة كي تنتقل من حالة الدفاع السلمي عن حقوقها الى حالة الهجوم المسلح من خلال بناء تشكيلات مسلحة تقارع النظام .
ومن هنا نستنتج ان معظم التنظيمات المسلحة من نتاجات حماقات الانظمة وقمعها لكل اشكال المعارضة الناعمة وغلق الطريق السلمي امام صناديق الانتخاب والتغيير السلمي للسلطة , ومن هنا يخرج الاستنتاج الثاني وهو ان معظم التنظيمات المسلحة تبدأ من حيث تنتهي فرص تغيير النظام او انهاء قمعه عبر الوسائل السلمية
الخلاصة
التنظيمات المسلحة هي من منتجات الأجهزة الاستخبارية بكافة اشكالها، عدا حركات التحرر التي تنشأ اولاً ثم تتودد لها اجهزة الاستخبارات الدولية لاحقاً حين تقوى شوكتها أملاً في توحيد الأهداف , اي ان حركات التحرر تكبر بجهودها ولاتستطيع الاجهزة الاستخبارية ان تملي عليها شروطها وانما تسعى للتعامل معها , والفرق كبير .
الا ان الدرس الخطير هنا هو ان الأجهزة الاستخبارية تسعى وراء الثغرات لكي تنفذ منها الى اوساط المجتمعات واللعب على اوتار مظلوميتها , فحين تكون الحكومات فاشلة في كل جوانب الحياة والخدمات وحين تصم آذانها عن مطالب شعوبها في الخدمات او العدالة او حفظ المال العام والمطالبة بالمساواة , فحينها تجد الشعوب خيارات تسير فيها ومن اخطرها طريق التنظيمات المسلحة , كما ان هنالك شعوب ترى ان من يحكمونها لايتحلون بالوطنية ولايسعون لاستقلال بلدانهم , فحينها ستجد الشعوب آذاناً صاغية لكل من يعينها على استقلال بلدانها , ان التداول الحقيقي للسلطة ووقف نزيف الفساد المالي واشاعة الامن والعدالة هي الوسائل الوحيدة التي تسلب من الاجهزة الاستخبارية المعادية زمام المبادرة وتحرمها من مآرب تشكيل تنظيمات مسلحة تحيل الحياة الى حافة الانهيارات , والله الموفق.