محمد قدري حلاوة يكتب : بروحي تلك الأرض

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 30 مارس 2021, 1:27:10 م
  • eye 956
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في أحد أيام شتاء عام ١٩٨٨ أستقبلت عائلة " أبو صلاح" مولودا جديدا..أسماه الأب " فادي".. عائلة أبو صلاح تقطن في  بلدة " عبسان" الحدودية شرق " خان يونس".. كان لم يمر على الإنتفاضة الفلسطينية الأولى " إنتفاضة الحجارة" سوي نحو عام..  " فادي" لم يزل بعد طفلا يحبو.. فرح به أبواه كثيرا عندما كان يحاول الوقوف والمشي ويتعثر محاولا الوقوف والخطو مرة أخرى.. تبادلوا الضحك والحبور وسط أجواء القنص والقذف التي مارستها قوات الإحتلال الإسرائيلي ورغم طابور الشهداء الذين تودعهم البلدة والبلدات المجاورة كل يوم وحين.. الحياة علمت الفلسطيني أن يسرق الضحكة وسط الأحزان وأن يتمسك بالأمل وسط غابات اليأس..الضحك والفرح يكونان أكبر وأعمق كلما بعدت أسبابهما وعز منالهما وخيم الموت بقسوته وثقله سالبا إشراقة الحياة..ترى هل كان والده يعلم أنه سيكون له يوما من إسمه نصيبا مفروضا؟.. 

كبر " فادي" وعشق كرة القدم.. وظل حريصا على ممارستها مع أبناء بلدته وأقرانه...لم يعي بالطبع حينها إتفاقية سلام " أوسلو" ولا ما تبعها في تسعينييات القرن الماضي من محاولات خلق سلام مستحيل في ظل إختلال موازين القوة وتواطؤ الجميع على وطنه.. إلي أن أتى سبتمبر عام ٢٠٠٠..أندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية " إنتفاضة الأقصى". كان عمره قد بلغ الثانية عشر عاما.. شاهد من هو في مثل سنه " محمد الدرة " يقتل بدم بارد محتميا بأبيه..علم حينها أن الموت هنا يأتي في أي لحظة.. وأستوي الموت والحياه منذ حينها في ناظريه.. شارك أقرانه في إلقاء الحجارة على جنود الإحتلال الإسرائيلي.. وأستمر على هذا الحال يكبر ويعي ويتعمق في وجدانه معني الوطن.. خمس سنوات كاملة يتخذ من حجارته سلاحا للمقاومة حتى توفي " ياسر عرفات" نهاية عام ٢٠٠٤ وإتفق"، عباس " و " شارون" على السلام. عام ٢٠٠٥. ذلك السلام الذي لم يتحقق لتلك الأرض أبدا..

في ديسمبر عام ٢٠٠٨ بدأت إسرائيل جولة جديدة من العدوان على " قطاع غزة" فى عملية أعطوا لها إسما هوليوديا جذابا هو عملية " الرصاص المصبوب"..كان ذلك الرصاص مصبوبا بالطبع على رؤوس أهل غزة المحاصرين والذين تخلي الجميع عنهم وصمتوا عن العدوان الإسرائيلي.. وفي ليلة شتوية قارصة كتلك التي ولد فيها " فادي".. أصيب منزله جراء القصف الجوي الإسرائيلي.. نقل " فادي" إلى المستشفى بين الحياة والموت.. و أستطاع الأطباء إسعافه بمعجزة رغم ضعف وعجز الإمكانات الطبية في القطاع المحاصر.. ولكن كان ثمن حياة "، فادي" أن تبتر قدميه.. وعندما أنتهي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة... كان "، فادي" الأن مقعدا يجلس على كرسي متحرك مبتور القدمين.. ورغم أن الأمر كفيل بأن يخلق اليأس والقنوط في روح أي إنسان.. إلا أن فادي ولأنه إبن تلك الأرض التي تنبت الشهداء والجرحي كل يوم.. لم ييأس ولم يفقد إبتسامه أو إرادته أبدا وواصل الحياة بعزيمة لا تلين وصبر لا ينفذ..

تزوج " فادي" ورزق بخمسة أطفال.. وواصل حبه وعشقه لكرة القدم بأن أنشأ فريقا من أبناء قريته سماه "شهداء عبسان ".. وصار مشرفا ومشجعا للفريق.. قدماه نعم لا تستطيع الأن أن تجري وتراوغ وتصوب على تلك الرقعة الخضراء.. لكن روحه يمكنها أن تحلق وتفعل كل ذلك.. في مارس ٢٠١٨ بدأت"، مسيرات العودة".. شعر " فادي" أن هناك أملا جديدا وحلما وليدا يستطيع أن يهب نفسه من أجله.. مازال له يداه اللتان طالما ألقيتا بالحجارة.. ما برحت روحه حية وإرادته صلبة.. وإنطلق " فادي" مشاركا في كل المسيرات...يوزع الطعام والشراب على المتظاهرين. يتحرك  على كرسيه بقوة وسرعة تفوق الأصحاء مبتسما كما أعتاد دوما ملقيا الحجارة بقوة على جنود الإحتلال الإسرائيلي كما دأب.. وفي الرابع عشر من مايو ٢٠١٨ في الذكرى الستين للإحتلال الإسرائيلي إنطلق " فادي" بحماس كعادته يلقى الحجارة.. ترك " فادي" كرسيه المتحرك وهبط على الأرض ملامسا السلك الشائك.. خلف هذا السلك تكمن الأرض.. يكمن الحق المسلوب..يستطيع أن يلمس عشب الأرض المحتلة.. تلك التي ظنها بعيدة هاهي راحتيه الأن يتشبث بها.. وبينما هو يلقى الحجارة.. كان هناك جنديا إسرائيليا متمترسا خلف جدار يركز علامة التصويب على صدر " فادي"...كانت طلقة الرصاص أفعل وأشد تأثيرا من إنطلاقة الروح.. فوهة البندقية أسكتت للأبد صرخات فاهه الهاتفة بالحرية.. أستشهد " فادي" بعد أن وضع تعريفا جديدا لمعنى العجز والإعاقة.. أثبت "فادي أبو صلاح" أن العجز عجز الروح والإعاقة في الإرادة لا الجسد.. وشيعت الألاف جثماته الطاهر إلى مثواه الأخير.. أرضه التي عشقها وضحى من أجلها ودافع عنها.. تحتضنه أخيرا وتحتويه كما إحتوت قدميه المبتورتين من قبل..

في الأول من أغسطس ٢٠١٩ تمكن " هاني أبو صلاح" الشقيق الأصغر"، لفادي " من إقتحام السلك الشائك الذي سبق أن أستشهد شقيقه عنده..  وأشتبك مع قوات الإحتلال وأصاب ثلاثة جنود إسرائيلين.. إلي أن أطلقوا عليه النيران وأستشهد..

ودعته قريته ووري الثرى بجوار " فادي"  ووسعته أرض " عبسان " أيضا تحت ثراها ..  تلك الأرض التي مازال يخطو ألافا من شهداء الغد فوقها.. وهي تستعد لإستقبالهم وضمهم في كل وقت وحين...

( في ذكر هؤلاء الأرقام الصحيحة الوحيدة في تاريخ وذاكرة الأوطان)


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)