- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
امير تاج السر يكتب: «نلتقي في أغسطس»
امير تاج السر يكتب: «نلتقي في أغسطس»
- 14 مايو 2023, 3:15:27 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أعلنت دار النشر الشهيرة راندوم هاوس، منذ أيام، عن صدور رواية جديدة للكاتب الكولومبي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز، بعنوان «نلتقي في أغسطس»، بداية العام المقبل، لتضاف إلى رواياته الجميلة والملهمة، مثل «الحب في زمن الكوليرا»، و«مئة عام من العزلة»، و«حادث اختطاف»، وغيرها من روائع الواقعية السحرية.
وكان ماركيز الذي توفي منذ حوالي تسع سنوات، قد حصد مجدا كبيرا، مستحقا، وألهم أجيالا من الكتاب عاصروه، أو أتوا من بعده، بما امتلك من خيال لا تحده حدود، إضافة لاستخدامه مفردات كتابية ما كانت لتستخدم لولا موهبته وجرأته، وقد قلت في مقال عنوانه «الكاتب الجيد حين يرحل»، كتبته مباشرة بعد وفاته: «إن ماركيز كان الأجدر وسط زحام الكتاب في زمانه، بسرقة أي قارئ يتوفر، وغرسه في عالمه الممتع، بحيث يصعب عليه الخروج منه، لقد كان دكتاتورا إبداعيا بلا شك».
الإعلان عن رواية جديدة إذن لهذا الكاتب الراحل، لم يفاجئني صراحة، ودائما ما توجد مثل تلك الكتب التي يتم العثور عليها بين أوراق المبدعين الراحلين، أو داخل ملفات في حواسيبهم، وتشكل لورثة المبدع ثروة يمكنهم استغلالها بسهولة ما دامت بين أيديهم، من دون أي اعتبار آخر. أو قد تكون موجودة عند أصدقاء أرادوا إعادة صديقهم الراحل إلى الأذهان، بنشر عمل متروك له، قطعا سيقبل عليه القراء، خاصة إن كان المبدع شهيرا، وله بصمة واضحة في الكتابة. وقد قرأت من قبل أعمالا نشرت لمبدعين عرب وعالميين بعد وفاتهم، كان بعضها جيدا، وبعضها أقل من مستوى المبدعين الذين نعرفهم.
أريد القول إن الكاتب أو الشاعر حين يموت، سواء أن مات فجأة أو بعد مرض ما، يترك ما أسميه الأعمال المهملة، وهي أعمال كتبها بذات روحه وقلمه، لكنها لم تنل إعجابه، أو لم ترتق في رأيه إلى النشر، لذلك يتركها ويكتب غيرها، ويستمر في الكتابة والنشر، غير عابئ بتلك الأعمال. بعض الكتاب يعودون إلى تلك الأعمال المهملة أحيانا، يطالعونها بعمق أو سطحية، قد يعملون عليها وتنضج عنده، وتنشر بعد ذلك، وقد لا يعملون ويتركونها في ركودها ذلك، وتصبح ليست مهملة فقط، ولكن لا ينبغي أن يطلع عليها أحد.
لقد كنت أراجع أوراقا قديمة لي، وعثرت على رواية كتبتها في مرحلة ما، ولم أحسها جيدة بحيث أعرضها على ناشر، أو أسمح لها بالوجود وسط عالم أردت صناعته واجتهدت في ذلك. كانت رواية قصيرة مكثفة ومكتملة، في البداية حاولت أن أطورها بحيث تواكب ما أكتبه الآن، وكان ذلك أمرا مرهقا، فتركتها هكذا مهملة، وآمل أن لا يعثر عليها أحد بعد رحيلي، ليضيفها إلى تراثي الكتابي.
أيضا عثرت على عدد من الروايات غير المكتملة، وهذه كان يمكن أن تكتمل لولا ظروف مؤكد حدثت أثناء كتابتها، وأعاقت اكتمالها، مثل الانشغال الوظيفي، أو المرض، أو السفر، وبالطبع هذه أيضا مهملة، ولا ينبغي أن يلتقي بها أحد في يوم ما.
وقس على ذلك تجارب لكثيرين رحلوا وظلت في طي الإهمال، وحضرت مرة نقاشا مصادفة عن أعمال عدة لروائي راحل وجدت في حاسوبه، وتحتاج لمن يراجعها ويعدل أجواءها، قبل أن تنشر. ولكن لم أسمع عن نشرها، وصراحة أتمنى تركها، ولدى ذلك الكاتب ما يكفي من المجد، ليبقيه حيا في أذهان قرائه ومتذوقي فنه الإبداعي.
إذن «نلتقي في أغسطس»، التي لا أعرف شيئا عن فكرتها وأسلوب كتابتها، لا بد تركت مهملة بعلم كاتبها، وبإرادته، ولو كان ماركيز يريد نشرها لفعل، خاصة أن ماركيز كان دقيقا في اهتمامه بنصوصه، كما نعرف كلنا، وقد يعيد كتابة النص مرات ومرات قبل نشره، وقد يقوم أيام أن كان يكتب بالقلم، بتمزيق فصول كثيرة من نص، قبل إعادة كتابتها. ولذلك أي رواية أو قصة قصيرة له تستطيع أن تشم رائحة مجهوده فيها، وتتذوق أنفاسه التي تنبعث من رئة الكتابة عنده.
وكما قلت إذا وجد نص له لم ينشر، فهذا معناه أنه من المفروض أن لا ينشر، فلن يضيف النص إلى ماركيز أي مجد، إذا كان نصا جيدا، وقد يسحب كثيرا من هيبة الكاتب الذي مات ويكتسي هيبة كبيرة، وجاذبية أخاذة، في رأيي الشخصي.
بالنسبة لدار النشر، هذا غير مهم، فما دام اسم روائي كبير سيوضع على غلاف الكتاب، وتسبق صدور الكتاب ضجة إعلامية، وأنه ينشر في الذكرى العاشرة لرحيل ماركيز، فقطعا سيباع بكثافة، ويحصد أرباحا كبيرة، وبالنسبة للورثة، لا بأس ما دام ثمة إضافة جديدة للإرث المالي الذي تركه الكاتب الراحل.
بالنسبة للعنوان لا بأس به، إنه شبيه بعناوين ماركيز، وغالبا هو من وضعه للنص، وهذا أيضا يدعم اعتقادي أن النص كان مكتملا قبل وفاته، وهو من أراد إهماله.
في النهاية لست ضد الاحتفاء بالكتابة، وإعادة ذكرى العظماء الراحلين إلى الأذهان، لكن أقول دائما أن ما تركه الكاتب مهملا في حياته، ينبغي أن يترك كما هو بعد مماته، وكون أحد ما يملك صلاحية الاطلاع على إرث الكاتب، لا يعني أنه يملك صلاحية استخدامه.