- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
السفير معصوم مرزوق يكتب : مفترق الطرق
السفير معصوم مرزوق يكتب : مفترق الطرق
- 27 أبريل 2021, 3:50:13 ص
- 1280
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عندما وقفت بسيارتي أمام بوابة الجامعة أرقب إبنتي وهي تدلف إلي داخل الجامعة في خطواتها الجامعية الأولي استدعي ذلك في ذاكرتي مواقفاً مشابهة في حياتي ،
وقفت فيها مرات عديدة في مفترق طرق ، وكان واجباً علي أن أختار ، وأعلم جيداً صعوبة هذه المواقف وآلامها ، حيث كنت أفكر وقتها أن خطوة واحدة خاطئة قد تعني ضياع مستقبلي كله !! ،
وقد تطلب الأمر سنوات من التجارب حتي أدرك أن الفشل إنما هو للإنسان الجاد مجرد قفزة في اتجاه النجاح لكنها أخفقت ، ولا بأس من تكرار المحاولة ...
لقد كنت محظوظاً في حياتي بأن أتاح الله لي أن أسلك طرقاً متعددة ، وأنال في كل منها نصيباً معقولاً من التوفيق ، فعندما نشبت حرب الإستنزاف عام 1969 ، كنت طالباً مستجداً في كلية الهندسة جامعة عين شمس ،
وبعد أن أمضيت العام الأول الإعدادي ، شعرت ، مثلما شعر الآلاف من أقراني في ذلك الوقت بأن مكاننا الطبيعي كشباب مصر ينبغي أن يكون في الجبهة ،
وكان ذلك أهم وأخطر مفترق طريق مررت به وكان الإختيار صعباً ، ولكنني أخترت ..
وسحبت أوراقي من كلية الهندسة وتقدمت إلي الكلية الحربية ،
واصبحت ضابطاً في قوات الصاعقة ، وتحقق حلمي في المشاركة في العبور وتحرير أرض بلادي وحصلت علي وسام الشجاعة من الطبقة الأولي ...
لم تمر سنوات قليلة بعد الحرب إلا وأصبحت في مواجهة مفترق طريق آخر لأسباب ليس الآن محل الحديث عنها ،
حين أعلنت وزارة الخارجية عن مسابقة لإلتحاق دبلوماسيين جدد بها ، وتقدمت إلي المسابقة ،
واجتزتها بتفوق في الإختبار التحريري والشفوي كي يصدر قرار بتعييني دبلوماسياً في وزارة الخارجية ،
وحينها أيضاً وقفت حائراً في مفترق طرق ما بين حياة الجندية ورفقة السلاح التي عشقتها ، وما بين وعد بطريق أدافع فيه عن قضايا بلادي بالطرق السلمية ،
ويتيح لي إنفتاح أكبر علي العالم .. وأعترف لكم أن الإختيار كان صعباً ومرهقاً ، أستغرق مني أيام متواصلة بلا نوم في التفكير .
. إلي أن هداني الله إلي البدء في العمل بوزارة الخارجية ، وهي الرحلة التي استغرقت عمري كله تقريباً ، وحملت مواقفاً عديدة وتحديات متنوعة ، ربما تحين فرصة للحديث عنها بتفصيل ذات يوم ..
إلا أنني أيضاً عضو في أتحاد كتاب مصر ، وأصدرت حتي الآن خمسة كتب ،
وأكتب مقالات بانتظام منذ ما يزيد علي أربعين عاماً في صحف ومجلات عربية ومصرية ،
فضلاً عن أنني حرصت علي دراسة القانون وحصلت علي الليسانس ودبلومة دراسات عليا مع دراسات قانونية حرة في الخارج ،
بما أتاح لي اليوم بعد المعاش أن أقيد في نقابة المحامين ، وأن أترافع في بعض القضايا الهامة مثل تيران وصنافير ...
هل أحدثكم عن الحرب ومعجزة العبور ؟ ، أم عن الدبلوماسية كفن وعلم هام ؟ أم عن الأدب أو القانون ...
لقد اخترت ، واستأذنكم في الموافقة أن أتحدث عن الدبلوماسية ، فهي مهنتي لمدة تزيد علي خمسة وثلاثين عاماً حملتني تقريباً إلي أغلب دول العالم منذ أن بدأت دبلوماسياً شاباً إلي أن أختتمت حياتي الوظيفية سفيراً ومساعداً لوزير الخارجية ...
يظن البعض أن الدبلوماسية مهنة سهلة ، لا تزيد عن حفلات ورحلات ، ويقول البعض أنها مهنة الكذب الأنيق ،
بينما يراها آخرون بأنها المهنة التي يجب لمن يمارسها أن تكون لديه القدرة علي إقناع خصمه بأن يتجرع السم وهو سعيد شكور ...
أستطيع أن أؤكد لكم ، وباختصار ، أنها قد تكون كل ما سبق ، لكنها كما عرفتها هي مهنة شاقة قاسية ..
ولكي نقتر ب من أهم خصائصها ، يجب أن أشير إلي بعض ميادينها الهامة :
فهي القدرة علي التنبؤ الصحيح بالصراعات المتوقعة Conflict Prediction
وهي القدرة علي العمل السريع لمنع الأزمات Conflict Prevention
وهي القدرة علي الإدارة الجيدة لمرحلة الصراع Conflict Management
وهي القدرة علي الإسهام في إيجاد الحلول للصراع بعد نشوبه Conflict Resolution
ثم هي القدرة فيما بعد علي الإسهام في ترتيبات ما بعد وقوع النزاع Post-conflict Resolution
وكل مرحلة من هذه المراحل لها أدواتها اللازمة التي قد نتناولها في مقالات قادمة .. إلا أنه يمكن بشكل عام أن نشير إلي سمات عامة لهذه الأدوات في كل المراحل :
حيث يجب دائماً السعي للحصول علي المعلومات الصحيحة ، والتحليل الدقيق لها ..
أهمية التواصل والإتصال المستمر مع الخارج خلال كل هذه المراحل ..
اكتساب المهارات اللازمة للتفاوض الثنائي أو المتعدد من خلال المؤسسات الدولية الإقليمية والعالمية ..
الإلمام بشكل كامل بالموقف القانوني للدولة في كل مرحلة ، وإعداد البدائل القابلة للتغيير وفقاً لتغيرات الموقف أو ما يمكن أن نطلق عليه " مرونة التحرك " ،
فعلي سبيل المثال قد يكون القبول بوقف إطلاق النار مصلحة في مرحلة من تطورات النزاع ،
إلا أنه قد لا يكون مقبولاً في مراحل أخري ، وذلك يقتضي أيضاً دراسة إحتمالات التسوية من حيث الموازنة الدقيقة والموضوعية لنقاط القوة والضعف في موقفي وموقف خصمي ..
ومن الأدوات الهامة ايضاً ، الوساطة ، والمساعي الحميدة والتحكيم ومحكمة العدل الدولية ...
كل هذه الأدوات تتطلب أن يتوفر في الدبلوماسي خصائص معينة منها : الذكاء / الثبات الإنفعالي / التمكن من لغات أجنبية / ثقافة عامة / القانون الدولي / الإقتصاد / الجغرافيا السياسية ..
أتصور أنني وصلت الآن إلي مفترق طرق في هذا المقال ، فقد انتهت المساحة ، ولا يزال لدي الكثير مما أريد الحديث عنه ... ربما يشاء الله أن أستكمل ذلك ، إذا كان لا يزال في العمر بقية ...