احمد خالد توفيق : لقاء الزعيم والرئيس

profile
  • clock 6 أبريل 2021, 2:37:02 ص
  • eye 921
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

وفي المساء التقى الرئيسان على مائدة العشاء ...

بدأ ( مانديلا ) يحكى قصصاً مسلية عن جنوب أفريقيا، وبرغم أن الترجمة الفرنسية كانت تفسد الكثير إلا أن ( ميتران ) راح يضحك .. الحق أن روح الدعابة كانت قوية لدى الرئيس الأفريقي العجوز ..

عندما انتهى العشاء سأل ( میتران ) ضيفه عن إقامته وما إذا كانت مريحة ..

- « هل هناك شيء معين خارج البروتوكول يمكن أن أقوم به لك ؟ »

فكر ( مانديلا ) قليلاً كأنما هو متردد ، ثم قال :

- « أريد ( سارة ) ! »

نظر له ( ميتران ) في عدم فهم :

- « ( سارة ) من ؟ »

- « ( سارة بارتمان ) ..

ثم بلهجة تجمع بين الإقناع والرجاء أردف :

- « أتمنى لو عدت بها إلى وطني ! »

رقيقة لها عينان لوزيتان حزينتان وفم دقيق .. فم لا يمكن أن تدس ملعقة فيه ..

فتاة ( الخوی خوی ) التي ولدت في القرن الثامن عشر في شرق الكيب على ضفاف نهر ( جامتوس ) .. أجمل فتاة في القبيلة .. ومن أجلها يتقاتل الفتية ويتبارون على رمي الرماح لمعرفة من أقواهم ذراعاً .. لكن القصة معروفة .. من سيفوز بها هو الذي يملك القطيع الأكبر من الماشية ..

( سارتجي بارتمان ) أو ( سارة ) كما صاروا يدللونها ..

( سارة ) النضرة .. ( سارة ) الجميلة تتأود قاصدة النبع لتملأ الجرار .. إنها تحمل كل مقاييس الجمال عند ( الخوی خوی ) ومنها تلك المؤخرة الممتلئة التي يراها الأوروبيون مضحكة ، لكنها ذروة الحسن عند هذه القبائل ..

بالنسبة للهولنديين لم يكن قوم ( سارة ) إلا مجموعة من البدائيين لصوص الماشية ، وكان الهدف الأهم هو استئصالهم تماماً ..

لقد اختطفت ( سارة ) عام 1810م .. بيعت لطبيب بريطاني اسمه ( دنلوب )، ووضعت على ظهر سفينة تتجه إلى إنجلترا .. لم تعرف أنها لن ترى وطنها أبداً ..

وأنها ستكون رمز الاستغلال العنصري وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان ، حتى إن قصتها ستروى في أكثر من عمل درامی ..

لم تكن معاملتها هي أفضل معاملة في الكون . لقد نقلوها مباشرة إلى سيرك ( بيكاديللي) ليعرضوها هناك ..

أطلقوا عليها اسم ( فينوس الهوتنتوت ) .. وكان نشاطها اليومي بسيطاً للغاية : كانوا يعرضونها عارية في كل مكان تقريباً ، والناس يدفعون ثمن التذاكر في حماس ..

لم يكن ( الخوی خوی ) يميلون للعري لكن الأوروبيين جعلوها تتعرى حتى تتمشى مع تصورهم للمرأة البدائية ..

كانت ( سارة ) صغيرة الرأس ممتلئة المؤخرة بشكل مبالغ فيه كعادة قومها ، وهذا دفع الأوروبيين للمجئ لرؤية هذه المعجزة ، والصور المرسومة لها في تلك الفترة تظهرها عارية تماماً تقف في مكان كحلبة السيرك ، بينما مدرب وحوش - مدرب حقيقي - يضرب مؤخرتها بعصا التدريب .. وكان يأمرها بأن تقف أو تجلس مع الكثير من ( آلى أوب ) طبعاً ..

كان هناك إنسان .. إنسان واحد فقط غضب لما يحدث ، والسبب هو أن لون بشرته كان يشبه لون بشرتها .. إنه ثائر من ( جامايكا ) يدعى ( روبرت ويدربيرن ) .. الحقيقة أن ( ويدربيرن ) كان شخصية مثيرة للاهتمام .. وقد اعتقل مراراً .. من أسباب هذه الاعتقالات أنه طالب بحق العبيد في أن يثوروا ويقتلوا سيدهم بلا محاكمة ! في فترة من الفترات النادرة التي لا يكون فيها في السجن، بدأ حملة تطالب بإعادة الإنسانية لهذه الفتاة ..

هكذا وجد البريطانيون أنهم مضطرون لمنع ظهور( سارة ) في السيرك بعد الضوضاء التي أحدثها هذا الثرثار ..

لكن المحكمة البريطانية احتجت بأن ( سارة ) مرتبطة بعقد مع ( دنلوب ) .. طبعاً كان هذا هراء .. فما الذي تعرفه ( سارة ) عن العقود أصلاً ؟

هنا يدخل الدكتور ( جورج كوفييه ) إلى المسرح ..

العالم الفرنسي المرموق الذي رأی ( سارة ) ذات مرة على المسرح ، فوصفها قائلاً :

- « إن في حركاتها نوعا من البدائية والنزوة يذكرنا بالقردة .. »

ومنذ ذلك الحين وقع العالم في غرام ( سارة ) .. الغرام لأنها كائن عجيب طبعاً .. هناك قصة غرام مشابهة بين بطل كمال أجسام وعالم التشريح ( هنتر Hunter ) الذي كان يريد أن يتبرع له البطل بجسده وهو حي من أجل تشريحه ! طبعاً ثار البطل غضباً وطرد العالم ، لكن العالم كأنها قصة رعب ظل يطارده في كل مكان إلى أن مات البطل هلعاً، وبالفعل ظفر ( هنتر ) بالجثة ! إن هؤلاء العلماء عباقرة لا شك في هذا ، لكنهم يكونون أحياناً في غاية القسوة ويعاملون الإنسان كشيء ..

تموت ( سارة ) فيأخذ ( كوفييه ) الملهوف الجثة فينتزع منها المخ وبعض الأجزاء الحساسة ، ويحتفظبهذه الأشياء في الفورمالين ، ثم يحتفظ بهيكلها العظمي ويصنع قالباً للجسد .. ويجري دراسات تشريح مقارن يثبت بها أنها أقرب إلى القرد .. بالذات إنسان الغابة ( أورانج أوتان orangutan) .. برغم أنه لم ير ( أورانج أوتان ) قط .. هكذا استخدم ( سارة ) ليثبت أن الأوروبي مخلوق بشكل أفضل وأسمى من الأفريقي ..

ظلت رفات ( سارة ) معروضة في متحف باريس حتى عام 1994 .. موضوعة في إناء زجاجي ملفوف بورق أبيض .. أي إنها لم تنل الراحة حتى بعد الموت ، وطالب ( مانديلا ) بعودة رفاتها إلى أرضها .. فلم يستجب الفرنسيون لطلبه إلا عام 2002، وبعد حملة مكثفة شارك فيها أساتذة جامعة وشعراء ومخرجو سينما .. في النهاية سمح مجلس الشيوخ الفرنسي بالإفراج عنها .. هناك كثيرون قاتلوا من أجلها .. لكنها لا تعرف هذا .. وللمرة الأولى تلمس أجزاؤها ثرى الوطن منذ عام 1810

كانت امرأة أفريقية وحيدة بلا عون ولا أقارب ولا مال في أوروبا .. ثم ماتت فلم يهتم أحد إلا بعرض بقاياها .. الجادون رأوا أنها تشبه القرد ، وغير الجادين سخروا منها ..

إنها الدليل الحي على قسوة الإنسان وتشدقه بالشعارات بينما هو يأكل لحم أخيه حياً ..

« أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ..لا فضل لعربي على أعجمي ولا الأبيض على أسود إلا بالتقوى .. »

التعليقات (0)