تكبير الخط تصغير الخط

فاز مرشح حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف “هانيس لوث” على المرشح المستقل “نيلس نومان” في بلدة “راغون جيسنيتز” الصغيرة بولاية “ساكسونيا أنهالت”، ليصبح أول عمدة مدينة من الحزب. وقد جاء ذلك بعد أسبوع من فوز “روبرت سيسلمان” من الحزب ذاته بجولة إعادة مماثلة في منطقة “سونبيرج” في “تورينجيا” ليتولى رئاسة دائرة “سونبيرج”. وعلى الرغم من أن المقاطعتين صغيرتان نسبياً، فإن النتائج تعتبر مهمة؛ لأنها تؤكد اتجاهات عدد من استطلاعات الرأي الوطنية بشأن ارتفاع شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وهي ما تسبب أيضاً في إحداث زلزال سياسي وجدالات في التعليقات على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى أنها أدت إلى ابتهاج قادة الحزب على أمل تحقيق المزيد من المكاسب في الانتخابات الإقليمية المقرر إجراؤها في عام 2024.

أبعاد الصعود

ثمة أبعاد متعددة تبرز ملامح تصاعد شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا”، ويمكن تناول أبرزها على النحو التالي:

1- ارتفاع الدعم الشعبي: استطاع الحزب اليميني المتطرف تحقيق نمو في قاعدته الشعبية بشكل مطرد خلال العام الماضي، من 10% في يونيو الماضي إلى 18% الآن، وفقاً لمتوسط ​​استطلاعات الرأي الوطنية التي تم تحليلها في استطلاع بوليتيكو لاستطلاعات  الرأي. وفي الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، شهد حزب البديل من أجل ألمانيا ارتفاعاً قدره 4 نقاط مئوية؛ ما يجعله الآن ثاني أقوى قوة سياسية، بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يتزعمه المستشار الألماني أولاف شولتز، وقبل كتلة المعارضة الرئيسية من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي؛ إذ وضع الاستطلاعان الحديثان اللذان أجرتهما مؤسستا “إنسا” و”إنفراتيست ديماب”، حزب البديل من أجل ألمانيا على قدم المساواة تقريباً مع حزب شولتز الاشتراكي الديمقراطي، بنسبتي 19 و18% على التوالي.

2- انتشار مؤيدي الحزب في الولايات الشرقية: إن صعود شعبية اليمين المتطرف لافت للنظر بشكل خاص في ولايات براندنبورج وساكسونيا وتورنجن بألمانيا الشرقية، التي ستجري انتخابات محلية خلال العام المقبل. ويرجع ذلك إلى انتشار الخوف من الإسلام ومعاداة السامية وكراهية الأجانب في شرق ألمانيا؛ فوفقاً لاستطلاع أجرته جامعة لايبزج الألمانية، دعا نصف الذين شملهم الاستطلاع إلى حظر هجرة المسلمين، وما يقرب من 70% أيدوا بيان كراهية الأجانب؛ حيث يرون أن الأجانب يأتون إلى ألمانيا فقط لاستغلال رفاهيتها، كما أن معاداة السامية منتشرة على نطاق واسع؛ إذ يقول واحد من كل ثلاثة مستجيبين تقريباً إن تأثير اليهود كبير جداً. وبناءً على ذلك، يستفيد حزب البديل الشعبوي اليميني المتطرف من التوجهات الواسعة النطاق في ألمانيا الشرقية لتوسيع قاعدته الشعبية، وتنفيذ أجندتها السياسية والاجتماعية؛ ولذلك يجد الخطاب اليميني المتطرف دعماً قوياً بشكل خاص في شرق ألمانيا.

3- صعود اليمين المتطرف في أوروبا: إن صعود اليمين المتطرف في أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي يعد بمنزلة إشارة تحذير حول مدى إمكانية إصلاح قواعد الهجرة ومعالجة المشاكل الاقتصادية داخل التكتل؛ فمن بين دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فإن اليمين المتطرف قوي أيضاً في النمسا؛ حيث يتقدم حزب الحرية النمساوي في استطلاعات الرأي بنسبة 27%، وفي فرنسا؛ حيث يحتل التجمع الوطني المرتبة الثانية بنسبة 24%، كما أنه يمثل الآن أكبر مجموعة يمينية متطرفة في أي برلمان فرنسي منذ الحرب العالمية الثانية، وكادت زعيمته “مارين لوبان” تخطف الرئاسة الفرنسية من الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون” خلال الانتخابات الأخيرة، وفي السويد؛ حيث يحتل الديمقراطيون السويديون المرتبة الثالثة بنسبة 18%.

وفي إسبانيا، التي تتجه إلى الانتخابات الوطنية في يوليو الجاري، احتل حزب فوكس اليميني المتطرف المركز الثالث في استطلاعات الرأي بنسبة 16%، وفي إيطاليا، يحكم اليمين المتطرف بالفعل؛ حيث أصبحت “جورجيا ميلوني” في أكتوبر الماضي أول قادة اليمين المتطرف في الدولة المتوسطية منذ الحرب العالمية الثانية؛ هذا إلى جانب توسع نفوذهم في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، مثل إسبانيا وفنلندا وسلوفاكيا واليونان. ومع ذلك، كان صعود اليمين المتطرف في ألمانيا سريعاً بشكل خاص ومثيراً للانتباه في ضوء تاريخ ألمانيا النازي المثير للقلق الأوروبي والعالمي.

4- انشغال التنافس الحزبي بعيداً عن اليمين المتطرف: اضطر “فريدريك ميرز” زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى التراجع عن وعده الذي قطعه في عام 2019، بأنه سيعمل على خفض قاعدة ناخبي حزب “البديل من أجل ألمانيا” إلى النصف، لكن خطابه ظل أكثر معاداةً لليسار منه لليمين طوال قيادته. وحتى بعد النجاحات الأخيرة التي حققها حزب “البديل من أجل ألمانيا”، أعلن ميرز أن حزب الخضر يظلون الخصم الرئيسي لحزبه، على الرغم من حقيقة أن الاتحاد الديمقراطي المسيحي قد تحالف مع حزب الخضر في ست حكومات من أصل 16 حكومة في ألمانيا.

5- استهداف حزب الخضر: أصبح حزب الخضر الهدف الرئيسي الجديد لحزب “البديل من أجل ألمانيا”؛ حيث إن خطتهم لألمانيا المتنوعة والصديقة للمناخ هي لعنة بالنسبة إلى الحزب اليميني، الذي يعتبرها مخططاً لانهيار البلاد؛ لذلك استهدف الأخير حزب الخضر، وخاصةً وزيرة الخارجية أنالينا بربوك، ووزير الاقتصاد روبرت هابيك، بمزاعم وإهانات على وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أن الاستراتيجية تعمل لصالحهم؛ نظراً إلى قدرة الحزب على التفوق على حزب الخضر في استطلاعات الرأي.

دلالات رئيسية

إن صعود الحزب اليميني المتطرف في ألمانيا ينطوي في مضمونه على مجموعة من الدلالات، وهي الدلالات التي يمكن إبرازها كالتالي:

1- عمق الخلافات بين الائتلاف الحكومي: يقول المحللون إن الائتلاف الحاكم المكون من ثلاثة أحزاب في ألمانيا: الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر والديمقراطيين الأحرار، يتحمل الكثير من اللوم؛ إذ إن الخلاف المستمر بين الأحزاب الحاكمة يُفقد الألمان الثقة بالحكومة، خاصة في ملفات مثل الهجرة والطاقة والاقتصاد، لا سيما أن الدعم العسكري الألماني لكييف ضد  الهجوم الروسي مرفوض أيضاً من جانب جزء كبير من السكان، على الرغم من أنه يحظى بدعم من الأغلبية.

2- نجاح الحزب في استغلال قضية تغير المناخ: لأكثر من شهرين، عانت الحكومة الألمانية من صراع داخلي حاد بين شركاء التحالف حول قانون الطاقة الخضراء المثير للجدل، الذي يسعى إلى معالجة مشكلة اعتماد البلاد على الوقود الأحفوري من خلال حظر المنشآت الجديدة لتدفئة الغاز والنفط في المباني اعتباراً من عام 2024؛ لذلك صور الحزب الشعبوي اليميني المتطرف نفسه على أنه معارض عدواني لسياسة الحكومة في مجال الطاقة والمناخ؛ حيث جادلت زعيمة المجموعة البرلمانية في حزب “البديل من أجل ألمانيا” في البوندستاج الألماني “أليس فيديل”، بأن خطط الحكومة ستؤدي إلى إفقار المواطنين، وأن خطط تحويل أنظمة التدفئة المنزلية إلى طاقة متجددة ليست أقل من “مذبحة تدفئة”، على حد تعبيرها، مشيرة إلى أن الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف ذلك القانون، سيضطرون إلى بيع منازلهم؛ فبالنسبة إلى الحزب اليميني، فإن العواطف أكثر أهمية من الحقائق التي تدلي بها الحكومة، ويبدو أن تلك الاستراتيجية قد حصدت ثمارها في الأشهر الأخيرة، عندما استطاع حزب “البديل من أجل ألمانيا” التفوق في استطلاعات الرأي بعدة نقاط على حزب الخضر.

3- نقد واضح للسياسة الفيدرالية: على الرغم من أن المنصب الذي حصل عليه حزب “البديل من أجل ألمانيا” في “سونبيرج” قد يبدو صغيراً نسبياً عند مقارنته بمنصب رئيس بلدية مدينة ألمانية متوسطة الحجم، فإن هذا الانتصار كان له صدى في جميع أنحاء البلاد؛ وذلك لأن السباق في منطقة “سونبيرج” ركز على انتقاد السياسة الفيدرالية، وتجاوز في الغالب قضايا مثل وقوف السيارات، والقمامة، والتمويلات المحلية التي عادة ما تكون ملاذ الدعاية في الحملات الانتخابية بالمقاطعات. ومن ثم يُنظر إلى بعض الدعم لحزب “البديل من أجل ألمانيا” على نطاق واسع على أنه رد فعل للحكومة في برلين، التي تكافح بالبلاد لمعالجة مشاكلها الاقتصادية، وإدخال تغييرات غير شعبية في سياسات الطاقة، والتعامل مع الهجرة على مستوى لم تشهده ألمانيا منذ 2015 و2016.

4- تلقي دعم خفي من قوى أخرى: على المستوى الوطني، تصر الأحزاب على أنها لن تعمل أو تصوت مع حزب “البديل من أجل ألمانيا”، بيد أنه على المستوى المحلي، قد يحدث ذلك في بعض الأوقات؛ ففي ديسمبر 2022، صوت أعضاء الاتحاد الديمقراطي المسيحي في بلدة بوتسن الصغيرة في ساكسونيا لصالح اقتراح حزب “البديل من أجل ألمانيا” بقطع بعض المزايا للمهاجرين. ولقد تصدرت هذه الخطوة عناوين الصحف ووضعت قادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي على المستوى الوطني تحت ضغط لإدانة الذين صوتوا لصالح البديل من أجل ألمانيا، لكن رئيس الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريك ميرز – الذي أعلن سابقاً أن أي سياسي من الاتحاد الديمقراطي المسيحي يعمل مع حزب البديل من أجل ألمانيا سيواجه الطرد من الحزب – ظل صامتاً بشكل ملحوظ.

ومنذ ذلك الحين، لم يواجه أعضاء الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذين صوتوا لصالح الاقتراح أي عواقب داخل الحزب؛ الأمر الذي يشير إلى أنه لا مانع للحزب الأخير في التعاون مع الحزب اليميني المتطرف، وربما قد يرجع ذلك إلى رغبته في كسب شعبيته، أو استغلاله في الانتخابات المقبلة ليكون بينهما تحالف.

تداعيات محتملة

مما لا شك فيه أن صعود تيار اليمين المتطرف سيكون له مجموعة من التداعيات المحتملة على صعيد المشهد السياسي والاجتماعي داخل ألمانيا، ومنها:

1- الضغط نحو الحد من سياسات تشجيع الهجرة: ساهمت الأعداد المتزايدة من طالبي اللجوء في صعود اليمين المتطرف، من يونيو من العام الماضي إلى مارس من هذا العام؛ حيث تضاعف عدد طلبات اللجوء في ألمانيا لتصل إلى نحو 25 ألفاً في الشهر؛ ولذلك لا تزال الهجرة قضية مشحونة للغاية في الداخل الألماني. ومن ثم، فإنه إذا استمرت شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” في الصعود، فإنها ستحصد المزيد من المقاعد السياسية، سواء في الحكومة أو البرلمان، مستفيدة من تصويت المواطنين الألمان (المتضررين من قضية الهجرة) لصالحهم خلال الانتخابات المقبلة.

ومن ثم، إذا نجح الحزب في تحقيق ذلك، فإنه لن يتردد في تبني سياسات أكثر عدوانية تجاه المهاجرين واللاجئين، بل قد نجد ألمانيا تقوم بإعادة فرض ضوابط حدودية دائمة، وقد يتم إغلاق الحدود الخارجية مع الاتحاد الأوروبي بالكامل؛ وذلك على حد قول الحزب.

2- تعزيز طموحات اليمين المتطرف: بعد النجاح الأخير لحزب “البديل من أجل ألمانيا” في الانتخابات الإقليمية، حذر منتقدون من أن الأبواب السياسية قد فُتحت أمام قادة الحزب، الذين يأملون أن يؤدي نصرهم إلى نجاح سياسي أكبر بكثير؛ إذ يعتقد منظمو استطلاعات الرأي أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” لديه فرصة واقعية في أن يصبح أقوى قوة سياسية في ثلاث ولايات بشرق ألمانيا، ليفوز بها في الانتخابات الإقليمية المقرر إجراؤها في عام 2024. ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أنه إذا أجريت الانتخابات اليوم، فإن حزب “البديل من أجل ألمانيا” سيفوز بنحو 20% من الأصوات على الصعيد الوطني.

3- تنامي الشكوك حول الديمقراطية الألمانية: في العام الماضي، قضت محكمة ألمانية بأن حزب “البديل من أجل ألمانيا” يمثل تهديداً للديمقراطية؛ ما يسمح بمراقبته من قبل أجهزة الأمن في البلاد. وبناءً على ذلك، سلطت دراسة حديثة أجراها المعهد الألماني لحقوق الإنسان الضوء على مدى إمكانية حظر الحزب اليميني المتطرف، وقد أشارت إلى أن المحكمة الدستورية الفيدرالية يمكن أن تحظره قانوناً؛ وذلك لأن أهدافه الصريحة هي القضاء على النظام الأساسي الديمقراطي الحر، وإلغاء ضمان الكرامة الإنسانية المنصوص عليها في الدستور الألماني، حسبما يزعم المعهد؛ ولذلك إذا وصل الحزب إلى السلطة، فإنه قد يقوم بإيواء اتجاهات معادية للديمقراطية، حسبما يتم اتهامه، على الرغم من أنه يدعم الديمقراطية بشكل رسمي في ألمانيا.

4- تحفيز محاولات حل خلافات الائتلاف الحكومي: في ضوء الاتهامات المتبادلة بين أحزاب الائتلاف الحاكم من جهة، والحزب الديمقراطي المسيحي من جهة أخرى بإلقاء اللوم على زيادة شعبية اليمين المتطرف في استطلاعات الرأي، حث حزب الخضر جميع الأطراف على ضرورة التوقف عن القتال فيما بينهم، وقالوا إن “حزب البديل من أجل ألمانيا” يستخدم حالة عدم اليقين الموجهة ضد أداء الحكومة، ويثير المخاوف التي تخدم مصلحته الخاصة؛ ولذلك نادى جميع الأحزاب الديمقراطية بالنظر إلى الداخل بدلاً من أن توجه بعضها أصابع الاتهام إلى بعض، والخسارة في اتهامات من جانب واحد؛ لأن ذلك يقوي حضور حزب “البديل من أجل ألمانيا” فقط؛ ولذلك قد نشهد توافقاً بين الأحزاب المتبادلة لتلك الاتهامات، حال توافق سياساتهم واتفاقهم على ضرورة توحيد الصف في مواجهة تيار اليمين المتطرف.

خلاصة القول أن الصعود المطرد لتيار اليمين المتطرف داخل العديد من البلدان الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية، قد ألقى بظلاله على تنامي شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا”، خاصة أن تلك الأحزاب عادة ما تنشط خلال الأزمات الاقتصادية، التي تستغلها لصالحها وتكيفها على أساس أجندتها السياسية. ولذلك فإنه في ضوء ما تشهده القارة العجوز من تحديات اقتصادية عميقة من جراء تداعيات الحرب الأوكرانية، وتحديداً اقتصاد الماكينة الألمانية، قد نشهد مزيداً من النمو في شعبية الحزب الألماني اليميني المتطرف، وقد يكون لديه فرص وفيرة خلال الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها خلال العام المقبل، التي ربما تكون نتائجها متقاربة مع توجهات الرأي العام التي رصدتها استطلاعات الرأي الألمانية مؤخراً.