- ℃ 11 تركيا
- 26 ديسمبر 2024
إبراهيم نوار يكتب: هؤلاء هم شرف الأمة الجريحة
إبراهيم نوار يكتب: هؤلاء هم شرف الأمة الجريحة
- 29 نوفمبر 2023, 9:08:04 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لا تكون السياسة بغير البندقية والدبلوماسية في آن واحد، ولهذا فإن صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين تمثل انتصارا للدبلوماسية القطرية – المصرية والمقاومة الفلسطينية، وتمثل في الوقت نفسه هزيمة لسياسة الحرب الإسرائيلية، من حيث إنها سياسة عدوانية تستبعد الدبلوماسية وتقوم على أساس القوة الغاشمة. وبدلا من أن تتعلم إسرائيل الدرس، فإنها إذ تريد إعادة الكَرّة بالحرب، لا تفعل غير إضافة فشل ثان لفشلها الأول، لأن الكثير من الشيء نفسه لن يأتي بنتائج مختلفة. لقد تعهد نتنياهو بالحرب حتى محو حماس من على وجه الأرض، لكنه بدلا من ذلك اضطر للتفاوض معها ووقف الحرب مؤقتا، وتوسيع نفوذها في الضفة الغربية والقدس، لدرجة إنه إذا جرت انتخابات اليوم فستفوز بنسبة 90 في المئة من الأصوات.
أثبت الفلسطينيون أنهم شعب غير قابل للفناء، وأثبتت المقاومة أن لها إرادة غير قابلة للكسر.. الفلسطيني يولد مقاوما يدافع عن حقه في وطن يعيش فيه حرا
حرب نتنياهو لم تحقق له شيئا، غير إرضاء شهوة الانتقام الصهيونية – النازية بتسوية أكثر من نصف غزة بالأرض، وتدمير مستشفياتها، وتخريب مرافقها، وقتل ما يصل إلى 22 ألفا من أهلها، ما تزال جثامين الآلاف منهم تحت ركام المباني التي تم قصفها، وتشريد أكثر من مليونين من شعبها الصامد. ومع ذلك أثبت الفلسطينيون أنهم شعب غير قابل للفناء، وأثبتت المقاومة أن لها إرادة غير قابلة للكسر. الفلسطيني يولد مقاوما يدافع عن حقه في وطن حر يعيش فيه حرا، و لإثبات قدرتها على التحدي فإن المقاومة الفلسطينية سلمت لإسرائيل مجموعة من المحتجزين في قلب مدينة غزة، في اليوم الذي كان فيه نتنياهو يتفقد القوات الإسرائيلية في داخل القطاع! وقد كان تسليم تلك المجموعة رسالة تترجم قوة إرادة المقاومة، وحقيقة سيطرتها على مركز المدينة الذي ادعت إسرائيل أنها احتلته.
تجليات الإرادة الفلسطينية
إن صور عملية تبادل الأسرى والمحتجزين سيطرت على المشهد السياسي كله في الشرق الأوسط، وفي العالم، وغطت على ما عداها، وهو ما يعيد التأكيد على أولوية القضية الفلسطينية، ومركزية الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وأهمية العمل من أجل تحقيق سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأنه لن يكون هناك سلام واستقرار في الشرق الأوسط بغيره. هذه المركزية التي تتمتع بها القضية الفلسطينية لم تتراجع، كما يدعي البعض، ولم تفقد أهميتها، رغم محاولات التضليل والتزييف، ومن شأن ذلك أن يضع محاولة اختراع محور صراع آخر تقف فيه الشعوب العربية في خندق واحد مع إسرائيل، في مزبلة السياسة ومزبلة التاريخ؛ فما تزال القضية الفلسطينية هي قضية الشعوب العربية الأولى، وما تزال معيارا رئيسيا من معايير شرعية الحكام في الدول العربية، ومدى رضاء شعوبهم عنهم. لقد أسقطت حرب غزة محاولة إقامة محور عربي – إسرائيلي، ووضعت مشروع «التطبيع» على الرف، لسنوات مقبلة، لأن أحدا لن يجرؤ على الحديث عن «تطبيع» قبل إحلال السلام في فلسطين، ولن يكون هناك سلام في فلسطين قبل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، تتجسد فيها إرادة الشعب المحروم حتى الآن من أول حق من حقوق أي شعب في العالم، وهو أن يكون له وطن يعيش فيه آمنا. تجليات الإرادة الفلسطينية في عملية إطلاق المحتجزين، نجحت أيضا في تقديم صورة إنسانية للمقاومة، تعرّي محاولة الإعلام الإسرائيلي رسم صورة متوحشة بربرية عنها. وقد شكلت مشاهد حرارة الوداع بين الإسرائيليين والفلسطينيين في عملية إطلاق المحتجزين صدمة للإعلام الإسرائيلي، الذي حاول بكل الطرق حجب مشاهد الوداع، وقررت الحكومة منع العائدين من غزة من إجراء أي مقابلات إعلامية، وفرضت رقابة عسكرية صارمة عليهم. إن المصافحة وتبادل الابتسامات، والوداع الدافئ الذي نقلت صوره وسائل الإعلام المحايدة في كل أنحاء العالم، يعزز قوة الانتصار السياسي للمقاومة في حرب غزة حتى الآن، ويثبت للعالم أن المقاتلين الفلسطينيين هم أصحاب حق وقضية عادلة تستحق التضامن معهم، وأنهم يدافعون عن حقهم وعدالة قضيتهم، في مواجهة قوة بربرية متوحشة تمارس أساليب نازية في حربها ضد الفلسطينيين. إن مشهد طفلة إسرائيلية تبتسم بحرارة وصدق لمقاتل فلسطيني وهو يسلمها إلى أفراد الصليب الأحمر الدولي، أو لسيدة إسرائيلية وهي تمد يدها لمصافحته، يفوق تأثيره أطنان القنابل التي تلقيها إسرائيل على غزة. كما أن مشهد مقاتل فلسطيني يحمل سيدة إسرائيلية مسنة على يديه إلى سيارة الصليب الأحمر الدولي، يرسل إلى كل المشاهدين في العالم رسالة رحمة وعطف تترجم القيم والأخلاق الحقيقية للمقاتلين الفلسطينيين، الذين تحاول إسرائيل تشويه صورتهم منذ 7 أكتوبر.
تكامل الدبلوماسية والمقاومة
مفاوضات الهدنة الإنسانية التي بادرت بها قطر ومعها مصر، وتعرضت للتوقف أكثر من مرة، ثم نجحت في تحقيق تهدئة مؤقتة في العمليات العسكرية، سمحت بتبادل مجموعات من أسرى الحرب والمحتجزين بين إسرائيل وحماس، وزيادة حجم تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، تجسد حالة من «الإصرار الدبلوماسي» على النجاح مهما كانت العقبات والعراقيل والضغوط. هذا الإصرار الدبلوماسي يقف على النقيض تماما من الحماقة الإسرائيلية المتوحشة بالاستمرار في الحرب تحت وهم محو حماس تماما من الوجود. ولذلك فإن الدلالة الأولى من دلالات نجاح سياسة «الإصرار الدبلوماسي»، هو أنها فرضت ضرورة عملية لـ»وقف إطلاق النار» لعدة أيام، حتى تتم عملية جزئية لتبادل الأسرى، كانت حماس قد فتحت شهية الرأي العام الإسرائيلي لها، بالإفراج مبكرا عن سيدات من المحتجزات الإسرائيليات «لأسباب إنسانية». الدلالة الثانية من دلالات نجاح سياسة «الإصرار الدبلوماسي» هو أنها أحضرت الرأي العام الإسرائيلي عمليا إلى طاولة المفاوضات، وفي عملية اتخاذ القرار. هذه الدلالة تضيف رصيدا سياسيا داخل إسرائيل لجهود التهدئة في غزة، بما يكبح الرغبة المتوحشة للحكومة الإسرائيلية في مواصلة حرب لا نهاية لها. أما الدلالة الثالثة والكبرى من دلالات نجاح «الإصرار الدبلوماسي» فهي أن التوصل فعلا إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس يوجه رسالة قوية إلى الإسرائيليين، بأن القوة العسكرية المتوحشة فشلت في إعادة المحتجزين، بينما نجحت الدبلوماسية. ومن ثم فإن النتيجة العملية لاستخدام القوة المتوحشة ستكون دائما سلبية، ولن تسفر إلا عن المزيد من القتل. كذلك فإن نجاح «الإصرار الدبلوماسي» يوجه رسالة قوية إلى الفلسطينيين، بأن هناك مساحة واسعة للتكامل بين البندقية والدبلوماسية في تحقيق أهداف التحرر الوطني الفلسطيني، التي تتضمن العمل على إطلاق سراح أكثر من 7 آلاف أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية. هذه دلالات مهمة لنجاح «الإصرار الدبلوماسي» في عملية تبادل الأسرى والمحتجزين، تمنح الدبلوماسية قوة لا تقل عن البندقية، وإن كنا نؤكد أن أيا منهما ليس بديلا عن الآخر. الصفقة تمثل انتصارا سياسيا لحركة حماس، وانتكاسة لسياسة الحرب الإسرائيلية.
غياب السلطة الفلسطينية
ما يبعث الأسى في المشهد السياسي الحالي هو، أن تختفي منه صورة السلطة الوطنية الفلسطينية! نعم لقد اختبأت السلطة داخل مكاتبها، في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون في جنين ونابلس ورام الله والقدس والبيره وطولكرم وطوباس، وفي كل فلسطين والعالم العربي والعالم، يحتفلون بإطلاق سراح مجموعات من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال. خرج هؤلاء من السجون ولم تستقبلهم غير عائلاتهم، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين ما تزال تجري في عروقهم دماء الحرية والشهامة، والتصميم على الاستمرار في المقاومة. لكن الصورة اختفى منها رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ورجاله! هذا ما يبعث على الحزن والأسى، لكنه يبعث في الوقت نفسه رسالة قوية إلى كل فلسطيني حر، بأن حرب غزة كشفت الغطاء عن السلطة، وعن انقطاعها عن شرايين المقاومة الفلسطينية. هذه الرسالة تترك أصداءها القوية اليوم وغدا وبعد الغد بشأن حقيقة دور السلطة، قائلة إن تاريخ صلاحيتها السياسية قد انتهي، وأنها باتت تحتاج إلى تجديد سياسي حقيقي، وأن هذا التجديد المستحق منذ فترة طويلة أصبح واجبا بمجرد أن تضع الحرب أوزارها.
إن غياب السلطة الوطنية الفلسطينية عن المشهد الحالي في فلسطين والشرق الأوسط، يعكس حقيقة أنها لم تكن شريكا في صنع المشهد، وليست جزءا منه، وأن محاولات استدعائها إليه، سواء بواسطة الولايات المتحدة أو دول عربية معدودة، هي محاولات بائسة لن يكتب لها النجاح، ما لم يتم إصلاحها. ليس من المنطقي أبدا أن تكون حركة حماس التي حازت الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الوحيدة التي جرت عام 2006 خارج هيكل السلطة الفلسطينية. وليس من المنطقي حرمان جيل شباب المقاومة الفلسطينية من المشاركة في عملية اتخاذ القرار السياسي الفلسطيني، والإصرار على احتكارها بواسطة شخصيات في أعمار ثمانينية وسبعينية، وكأنهم خُلقوا للحكم حتى موتهم، بينما خُلق الشباب للمقاومة مع حرمانهم من حق اتخاذ القرار حتى مشيبهم.