- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
أحمد عزالدين : عن ثورة يوليو وجمال عبد الناصر أى ميراث نجحد ؟!
أحمد عزالدين : عن ثورة يوليو وجمال عبد الناصر أى ميراث نجحد ؟!
- 1 أغسطس 2021, 10:53:03 م
- 761
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
فى أوج لحظة انهيار الإمبراطورية السوفيتية ، وصعود ( يلسن ) إلى السلطة ، خرجت مجلة ( بلاى بوى ) الأمريكية وعلى غلافها صورة لشاب وشابة إلى جانب مرقد وتمثال ( لينين) قائد الثورة الروسية وهما يمارسان الجنس شبه عاريين ، وقد كانت الدلالة المباشرة واضحة ، أن مرقد ( لينين ) وتمثاله ، الذى كان يتطلب المرور عليه ، الوقوف لساعات ، قد أصبح مهجوراً ، حتى أنه غدا مكاناً يمارس فى ساحته ، ما يمارس فى غرف النوم المغلقة ، وأن هذا التمثال فضلاً عن ذلك لم يعد غير قطعة متآكلة من الحجر ، يدبّ من حولها نبض الحياة الجديدة ، على الطريقة الأمريكية ، ثم كانت الدلالة الأعمق فى النهاية ، بمثابة إعلان مدو لا عن هزيمة الثورة الروسية وقائدها ، وإنما عن هزيمة وانهيار ودفن الأمة الروسية ذاتها ، مع قطعة ثورية حّية من تاريخها.
لكن العقل السياسى الروسى أدرك بعمق منذ البداية ،أن التاريخ القومى لروسيا ، لا ينفصم ولا يتجزأ ، وأنه ككل تاريخ قومي آخر ، نهر بلا فواصل ولا قواطع ، ولهذا فإن روسيا التى لم تعد ماركسية أو لينينّية أو إشتراكية ، قررت أن تصنع هذا العام من حدث مرور مائة عام على الثورة البلشفيّة ، بعلمها الأحمر ، وبمنجل ومطرقة لينين ، أكبر احتفالية رسمية وشعبية فى التاريخ الروسى الأمر نفسه يمكن أن تراه مكرّراً فى فرنسا مع كل احتفال بالثورة الفرنسة ، حيث تتزيّن باريس بكل ورودها وعقودها ، وتبدو وكأنها اغتسلت فى مياه السين ، وتعطرت بعبق التاريخ ، وكأنها تنتظر عشاقها القادمين من فجاج تاريخها ، وقد توحدّت بأجيالها وتياراتها السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، ومن قمة السلطة إلى سفح المجتمع.
وفى احتفالات روسيا أو فرنسا بالثورة لا تُركز الأعين على الأخطاء والسلبيات ، فلا أحد فى فرنسا يستعيد مقصلة الجيلاتين ، ولا برك الدم المسفوك فى الشوارع ، ولا أحد فى روسيا- أيضاً- يركز على عمليات القتل المنظم ، والتصفيات التى تجاوزت الحدود لكل من يحمل شبهة مضادة للثورة .
لأن التركيز فى كل الأحوال ، لا يتم إلا على تلك العصارة الثوريّة الحّية ، التى اندفعت لتجدد شباب أمة ، بأبنيتها الإجتماعية والإقتصادية والفكرية قبل السياسية ، وانعكست بالتالى على المكانة والدور.
عندنا فى مصر يبدو الأمر عكس ذلك ، وتبريره بجرحى الثورة المصرية ، ينطوي على مفارقة ، إذ أن جرحى ثورة يوليو لا يساوي فى ميزان التاريخ ، عوداً واحداً فى حقول قتلى الثورة الفرنسية ، أو ضحايا الثورة الروسية ، وحتى لو كان الأمر جراحاً وضحايا ، فمن قبيل منطق الطبيعة أن النار تبرد بمرور الوقت ، وأن الجروح تزداد التئاماً بمرور الزمن ، لكن عندنا تعمل قوانين الطبيعة ضد الطبيعة ، فتزداد الحملات المنظمة ضد الثورة ، وضد قائدها جمال عبد الناصر ، كلما تعاقبت السنين ، وتراكمت العقود ، وتدافعت المتغيرات ، وكأن ثورة يوليو ما تزال هى المحيط الصحراوى القاحل الذى يحاصر مصر ، ويلف أذرعه عليها ، ويمنعها من أن تعانق المستقبل.
والمؤسف فى ذلك - أولاً - أننا نتكلم عن ثورة جرى تصنيفها فى كل مدراس البحث العلمى والدراسات التاريخية الغربية ، على أنها واحدة من أهم الثورات فى التاريخ الإنساني كله ، ليس بحكم ما أحدثته فى البيئة الداخلية المصرية ، من المتغيرات العاصفة فى بنية المجتمع ذاته ، وفى هياكله الدفاعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية فحسب ، وإنما بحكم تلك الزلزلة التى أحدثتها فى المحيطين الإقليمي والدولى ، وسواء تم الحديث عن رياح الثورة التى هزت أفريقيا كلها ، ووصلت أصداؤها إلى أمريكا اللاتينية ، أو عن مردودها العميق التأثير فى المحيط الدولى كله ، فقد نازلت الظاهرة الاستعمارية وأسقطتها بعد أن امتدت خمسمائة عام ، وتمكنت دولة واحدة فى إهابها مثل بريطانيا أن تحتل مساحة من الكرة الأرضية قدر مساحتها مائة وستة وثلاثين ضعفاً ، وقد تحولت على يديها من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ، إلى مجرد دولة تابعة للامبريالية الصاعدة الجديدة .
ولهذا قد يري البعض أن ثورة يوليو قد غيرت فى بيئة الإقليم والعالم ربما أكثر مما غيرت فى بيئتها ، وهذا سبق فى التاريخ لا يدانيه سبق ، وريادة تحظى باعتراف سياسى وأكاديمى ساحق ، وموروث عظيم ينبغى العضّ عليه بالنواجز ، ولذلك فإن أولئك الذين يطعنون فى الثورة ، ودورها وتأثيرها سبقاً وريادة وإعادة بناء لموازين القوى الإقليمية والدولية ، وينكرون ميراثاً وطنياً عظيماً ، إنما يشكل إنكاره وجحده مزيجاً يتراوح بين سوء التقدير وسوء الفهم ، وبين سوء النية وسوء القصد.
والمؤسف فى ذلك - ثانياً - أن الذاكرة التاريخية ، وفى القلب منها الذاكرة العسكرية ، هى أكثر العوامل تأثيراً فى صنع الثقافة الإستراتيجية ، فالثقافة الإستراتيجية لشعب من الشعوب ، هى التعبير المباشر فى فترة من الزمن عن ذاكرته التاريخية .
ولذلك فإن التعتيم على مرحلة تحول كبرى ، مشبعة بالمتغيرات والتحديات والمعارك ، وذمّها وتحقيرها برجالها وانتصاراتها وهزائمها ، ليس عملاً من أعمال العقل ، وإنما من أعمال الغواية ، لأن نتائجه إنما تنصبّ ، بالسلب فى درجة سطوع ووضوح الثقافة الإستراتيجية للشعب ، باعتبارها أهم الأسلحة ، فى لحظة صراع تاريخى بالغ الشدة والحدّة ، هو فى جوهره صراع وجود.
والمؤسف فى ذلك - ثالثاً- أن هذه الحرب الطاحنة ضد ثورة يوليو ، لم تكن وقفاً عليها ، وإنما شكّلت ما يشبه القانون الطبيعى ، ضد كل ثورة مصرية فى التاريخ الحديث والمعاصر .
لقد تفردّ الشعب المصرى ، بأن فجّر وقاد خمس ثورات كبرى ، خلال قرنين من الزمن ، وإذا كان ذلك يشكّل علامة طاقة لا تنفذ ، وصلابة لا تلين ، وإصراراً لا يقبل المصادرة ، فقد كان الجيش المصرى حاضراً بقوة العقيدة قبل قوة السلاح جسداً وروحاً ، فى كل واحدة من هذه الثورات ، من عرابى حتى 30 يونيو ، باستثناء ثورة 1919 ، لأن جسد الجيش كان محتجزاً وراء الحدود فى السودان ، وهذا ما لم يمنع من مشاركة طلاب المعاهد العسكرية فى قلب موجتها ، غير أن كل هذه الثورات نالت نصيبها من الحرب عليها بترسانة من الأكاذيب والفتن والدعاية المضادة ، وكأن المطلوب طول الوقت هو شطب كلمة الثورة نفسها من القاموس ، وقد فعلها ( فوكوياما) صاحب نظرية نهاية التاريخ ، لكنه لم يجرؤ على أن يشطب الثورة من التاريخ ، وإنما شطبها من المستقبل ، قبل أن يجئ رد التاريخ حاسماً على يد المصريين بأن الثورات لا تلغى ، فضلاً على أنها لا تنسخ أو تستنسخ .
وإذا كانت حروب الثأر ضد الثورات فى التاريخ المصرى قد أنطفأت ، ولم يبق منها الإ حروب الثأر ضد ثورة يوليو ، إلا أنه يخيّل إليك بعد عقود طويلة أنها حروب ممتدة ، وكأن نار يوليو قد أُضرمت الآن ، وأن جرحى يوليو هم عموم الشعب المصرى ، وأن هذا الشعب لم يكن صانع الثورة ،وملهمها وقائدها ، وإنما كان فى مقدمة ضحاياها ، ولهذا فإن هدف هذه الحرب ليس شطب الثورة من التاريخ ، فهذا أمر يفوق خيالات أصحابها ، ولهذا - أيضاً - لا شئ فى هذه الحرب بالمعنى الحقيقى ، معنىّ بما كان ، وإنما بما سيكون ، ولا شئ فى هذه الحرب موجّه إلى الماضى وإنما إلى الحاضر والمستقبل .
والمؤسف فى ذلك - رابعاً - أنه لا شعب يمتلك مثل هذا العمق الحضارى التاريخى كالشعب المصرى ، ولا شعب يمتلك فى عمق هذا العمق الحضارى التاريخى، ميراثاً هو الأغنى ، من المعرفة والتضحية والفداء والتجربة والصواب والخطأ ، فضلاً عن أن هذا العمق الحضارى التاريخى ، ظل يمثل منجماً مفتوحاً لحالة وطنية فريدة ، أسمها " الخصوصية المصرية " تحسّها دون أن تمسكها ، وتدركها دون أن تبصرها ، وترى نتائجها وأثارها دون أن ترى مقدماتها ، وتفاجئك فى كل مرة ، كأنها قادرة على أن تجدد نفسها فى كل دورة ، فهى الخصوبة وقت الجدب ، وهى الفيضان فى ذروة الجفاف.
وقد يبدو مدهشاً أن صورة جمال عبد الناصر فى الوجدان الجمعى المصرى ، قد تعرضت على امتداد ما يقرب من نصف قرن ، إلى قذائف متصلة من مساحيق الإذابة ، وإلى قنابل متتالية من مركبات الحقد والكراهية ،وأنها جميعها فى النهاية ، لم تترك أثرا يزيد عما تتركه قنابل الدخان ، التى سرعان ما يتبدد ، لتبق الصورة على حالها ، بل لتنبسط وترتفع فى لحظات الإنشداد والمواجهة والتغيير فى الميادين، كأنها تميمة التوحد والنصر المبين ، وظنى أن ذلك ليس مردّه إلى أن جمال عبد الناصر كان منحازاً إلى القاعدة الاجتماعية المنتجة العريضة فحسب ، ولكن ظنى أنه فى النهاية ، كان أقرب إلى أن يكون التلخيص الفريد لهذه الحالة الفريدة التى أسمها ( الخصوصية المصرية ) ، التى تنحدر من هذا العمق الحضارى التاريخى لمصر .
إن ذلك لا يعنى أن جمال عبد الناصر فوق النقد ، وأن ثورة يولو فوق المراجعة النقدية ، وقد كنت أحد دعاة هذه المراجعة بين ضفتى كتاب ، ولكن ما يجرى لا هو بالنقد ولا هو بالمراجعة النقدية ، فقذف التاريخ بالأحجار ليس نقداً وليس مراجعة ، وتشويه وجوهه ليس نقداُ وليس مراجعة ، وضحد ميراثه الحىّ وذمه وتحقيره ليس نقداً وليس مراجعة ، لأنه فى مجمله ليس عملاً من أعمال المنطق ، ولا من أعمال الثورة ، ولا من أعمال العقل .
إن ميراثنا التاريخى العظيم كامن فينا ، سابح فى كريات دمنا ، وحين نجحده ، فإنما نجحد أنفسنا !