- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
محمد كامل خضري يكتب : دنيا المناجم
محمد كامل خضري يكتب : دنيا المناجم
- 10 يونيو 2021, 4:04:22 ص
- 1391
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ أكثر من عام تمت تصفية مناجم الحديد فى أسوان بحجة تكلفة الإنتاج العالية وعدم الجدوي الإقتصادية للمنجم بعض العاملين إنتقل لشركات أخرى وكبار السن أبقوهم دون عمل وكان أبى فى منتصف الأربعينات أوقبلها بقليل فكان من الشباب الباقى الذى إلتحق بمناجم الشركة بالواحات البحرية والمسافة بينهما حوالى 1300 كيلو ...على رحلتين ...رحلة من أسوان للقاهرة ثم رحلة تقدر بثلث المسافة مرة أخري الى داخل الصحراء الغربية...أنتدب والدى أول عام 1972 إلى الواحات ثم تم نقله نهائيا فتبعناه عام 73 بعد إنتهائى من إمتحانات الثانوية العامة وظهور نتيجتى ورحلنا ونزلنا عند أحد أقاربنا بالجيزة وكان ذلك أول عهدى بالعاصمة وآه من أول مرة أول مرة تعنى بالنسبة لى الكثير أتذكر أول مرة فى كل شئ فى حياتى وأتذكر لحظاتها وطعمها وحلاوتها وإنبهارى...أول مرة أرى البحر فى الإسكندرية...أول مرة أرى عيون الماء تتفجر فى الواحات البارد منها والحار...أول مرة آكل العنب البناتى أول مرة أركب سيارة وأول مرة أقود سيارة...أول مرة أتذوق عسل النحل أول مرة آكل التين البرشومى أول مرة آكل المانجو العويسى "مش البلدى المزز" أول مرة آكل الكباب والكفته أول مرة آكل الجمبرى أول مرة أكتب خطاب غرامى أول مرة أركب طيارة أول يوم دخلت فيه المدرسة وأول يوم لى فى الجامعة وأول حب...أقسم بحق السماء أن معظم هذه الأشياء لم أنس ذكراها فى الطفولة وفى المراهقة وفى الشباب مثلا كانت أول مرة أمسك تليفون وأتصل كان من قهوة فى الجيزة وكنت طالب جامعى وطلب منى آحاد الناس من زملاء أبى فى الواحات أن أتصل برقم أهله لأطمأنهم وأعطانيه ولكن النمرة...لم تجمع أحيانا أو لا ترد أحيانا أخرى وحاولت مرات عديدة ولكن دون جدوى سألنى الجرسون حد رد عليك قلت لا قال لى طلبته كام مره؟ قلت ثلاث مرات فطلب منى ثمن ثلاث مكالمات فدفعت ...معلهش أخوكم صعيدى غشيم ! وتخيلت نفسي ساعتها أنى ضحكت عليه راجيا المولى أن يغفر لى مافعلت ﻷنى طلبت النمرة حوالى خمس مرات !
كنت صعيدى بشوكه...الجنوبى يا إخوتى مفردات لغته لاتزيد عما فى المصحف بمائة كلمة أوهكذا كنت شاملة أسماء اﻷكلات والحيوانات والنباتات بالإضافة لما تعلمه فى المدرسة
جاء والدى بميكروباص الشركة عشاءً....وملأنا الميكروباص أبى وأمى وأنا وثلاث أخوة وبعض متاعنا ودخل الميكروباص نفق شارع الهرم وما أدراك ماشارع الهرم أيامها ...لاس_ فيجاس الشرق ..كازينو الليل واﻷريزونا والهمبرا وغيرهم كثير...يمينا وشمالا اﻷضواء المبهرة المتراقصة السريعة بألوانها الطيفية ولا أدرى ساعتها أكان فمى مفتوحا أم مغلقا...ولكننى أعتقد أنها كانت اﻷولى ﻷنه مع نهاية الشارع وبداية الظلام فى ميدان الرماية أحسست ببعض الخوف فأقفلت فمى !
بدأ الظلام ينتشر حولنا ولانرى من النور إلا نور السيارة حتى القمر كان فى المحاق ...تكلم أبى مع السائق الذى يجلس بجواره عم محمود حسن قليلا وهو رجل قليل الكلام ...ثم ساد الصمت أما أخوتى فناموا أما أمى فهالها الأسفلت اﻷسود والليل الأسود كأنهما سرمدا وكأننا دخلنا أنبوب الثقب الأسود ورغم طول الطريق لم تصادفنا سيارة لامعنا ولا عكسنا...أحسست بيدها تمسح دمعا سال على خدها طبطبت على كتفها ثم أخذت فى النهنهة والبكاء بصوت خفيض ثم إرتفع نحيبها قليلا قليلا حتى سمعته أنا الجالس بجوارها...كانت تتمتم كان ممكن أن أبقى فى الصعيد فلماذا يأخذنا هذا الرجل الى المجهول ؟!
وأطيب خاطرها بصوت خافت ياأمه نجرب وبعدين نحكم ياأمه ده برضك أبونا ومينفعش يعيش حياة العزاب فى هذا العمر ...أبدا ...أبدا...هو أنا ماليش أهل سأعود حتما فى اﻷيام القادمة...وهو حر فى حياته...نزلنا الإستراحة لم يلحظ أبى شيئا كانت أمى قد هدأت ...الإستراحة فى منتصف الطريق مصابيح بترولية أوقدت خصيصا لنا عند الوصول والشاى الدافئ...والبسكوت وإستكملنا الرحلة...ووصلنا بعد منتصف الليل إلى أول مكان مضئ منذ خروجنا من الجيزة ...عمارات سكنية مظلمة لم يسكنها أحد وعمارات تحت الإنشاء وشوارع مضيئة...كان فى إنتظارنا بعض زملائه...تعشينا ثم نمنا من التعب لم يوقظنا فى الصباح إلا صوت الأوناش التى تعمل فى بناء ماتبقى من المدينة السكنية التى نزلنا فى أحد عماراتها الجاهزة للسكنى ومفروشة من قبل الشركة وصوت العمال الذين يبنون...ياالله لقد إنبهرنا بالقاهرة فى اﻷيام القليلة الماضية التى تضاءلت أسوان بالنسبة لها ...وندمنا أننا ضيعنا العمر فى أسوان...ولكن يبدوا أننا سنندم على أسوان فى قادم اﻷيام...وسنضيع مابقى من العمر فى هذه الواحات التى لايصلها إرسال راديو ولاتلفزيون ولا تليفون ...ومن طول المشوار إليها لفت دماغى...أو كما يقول الصعايدة "دماغى إندارت" حتى أنى صليت طول النهار يوم وصولنا عكس إتجاه القبلة حتى صحح أبى لى الموقف والطريف أن أبى كان يترك العمل فى مبنى الإدارة ويأتى للإفطار معنا ويكمل عمله فى مخازن الأثاث فى العمارة المجاورة أين ذلك من صحيان الفجر وقطر المنجم فى أسوان !...وجدنا أنفسنا محل ترحيب من كل العاملين ...لم يسبقنا من العائلات سوى عائلة الأستاذ محمد موسى وعائلة الباشمهندس شوقى ...كان الأخوة صغارا فى الإبتدائى وكانوا بمثابة فاكهة لكل العاملين فى المدينة ....معقول المدينة فيها أطفال وكان الجميع يغدق عليهم بالحلويات والبسكوتات ويتمنوا لهم الرضا يرضوا وكأن المدينة كلها كانت ملكا لنا لأننا كنا ممثلى الشعب فى عمارات المستوى التانى لأن سكان المستوى الأول (أسرتان)كان لهم تواجد محدود وتمشية صغيرة قبل الغروب ثم يختفوا ومن الرواد الذين بدأوا فى إعمار المدينة...والغريب أن إخوتى أحبوا الواحات ودخلوا منها الجامعة كما أحببت أنا أسوان *.