محمد قدري حلاوة يكتب : عدالة فرنسية

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 30 يونيو 2021, 7:44:40 ص
  • eye 877
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

القراءة في وثائق التاريخ عملية شاقة وشيقة وشائكة في آن واحد.. من الذي يروي التاريخ؟.. وكيف يرويه؟. وماهي وجهة النظر والخلفية التي يتبناها وتدفعه لذلك؟.. وأين الحقيقة وسط تلك الأكوام المكدسة من الروايات والوثائق؟..

قراءة سريعة في " مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جري بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام  كلهبر.." الذي طبعته قوات الإحتلال الفرنسي لمصر والمسماة تلطفا بالحملة الفرنسية.. قد تعطي صورة سريعة عن واقع دعاوي الحرية والإخاء والمساواة.. تلك الدعاوى البراقة التي توارت خلفها جرائم الثورة الفرنسية ومذابحها.. 

عندما تم القبض على سليمان الحلبي وإستجوابه..رأي المحققون الفرنسيون أنه يكذب ويراوغ.. فما كان إلا أن "أمر صاري عسكر أنهم يضربوه حكم عوايد البلاد.. فحالا إنضرب لحد إنه طلب العفو.. وأوعد إنه بقى يقر في الصحيح _ يقول الحقيقة _.. فأرتفع عنه الضرب وإنفكت له سواعده".. لاحظ هنا أن " الضرب" كان إضطراريا نظرا "لكذبه ومراوغته".. وأنه تم "بحكم عوايد البلاد" فقط فهو فعل لا تأتي به الجمهورية الفرنسية المبشرة بالحرية والتي أعتادت إحترام عوائد البلاد.. ألم يحتفل" نابليون " ذاته بمولد النبي" صلى الله عليه وسلم ".. بقى أن نذكر أن الإستجواب تم في حضرة " مينو" الذي أشهر إسلامه بعد ذلك وسمي نفسه " عبد الله " إفراطا في إحترام "عوايد البلاد"..

ولأن الفرنسيون شديدو الإحترام لثقافة وعادات البلاد التي يحكمونها فبعد محاكمة سريعة للحلبي ورفاقه.. تداول القضاة الفرنسيون وقرروا " أن يعذبوا بعذاب من العذابات المعتادة بالبلاد ( ثانية!!).. و أفتوا" أن سليمان الحلبي تحرق يده اليمين.. وبعده يتخوزق.. ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور ".. كما حكموا على شركاه أن يقتلوا وتعلق رؤوسهم على" النبابيت ".. وتحرق أجسادهم.. وأن يجري كل ذلك أمام ناظري الحلبي قبل تنفيذ الحكم فيه..

الفرنسيون الذين أتوا بالحرية مضطرين في أحكامهم للأخذ" بعوايد البلاد " مهما بدت بشعة في عيون البعض ..ليس من حق أحد إذن أن يستنكر الوحشية الفرنسية...هم مضطرون لمسايرة أعراف البلاد التي أتوا إليها مبشرين بالحضارة والتنوير .. ( رغم أن التاريخ لا يذكر عقوبات مماثلة تمت في مصر نتيجة جرائم القتل).. وتحكي وقائع التاريخ أن " سليمان" لم تند عنه صيحة ألم عندما حرقوا يده.. ولم تبدو منه شكوى حين وضع على الخازوق.. فقط شعر بالعطش الشديد وطلب من جندي، فرنسي الماء.. وهم أن يعطه إياه إلى أن نهاه أحدهم عن هذا الفعل الكفيل بقتل " سليمان" على الفور مما يقيه لحظات أخزي من مشاعر العذاب الأليم.. ويبطل الحكمة من سردية العذاب المرسومة بدقة.. 

لم ينس الفرنسيون بالطبع أن يحتفظوا بجمجمة " سليمان" ويأخذوها معهم عندما رحلوا من مصر.. ومازالت محفوظة بأحد متاحفهم ( كما يحتفظوا بجماجم العديد من  الثوار الجزائريين).. لكن تلك المرة طبقا " لعوايدهم هم".. عوايد العدالة الفرنسية..

( دارت مناقشة طاحنة في مجلس الشعب عام ١٩٩٨ عندما أراد البعض الإحتفال بذكرى مرور مائتي عام على "الحملة الفرنسية" على مصر.. ووسط الجدل والصخب والأصوات المعارضة.. صرح وزير الثقافة الأسبق "فاروق حسني"  بحدة وحسم وهو يتحدى تلك الصيحات الغاضبة " أن الحملة الفرنسية لا تختلف كثيرا عن التدخل المصري في اليمن عام ١٩٦٢!!!..)..

التعليقات (0)