قصة قصيرة معصوم مرزوق :حمير لا تخون

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 21 أبريل 2021, 4:17:47 ص
  • eye 1026
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

خيانة ..هذه هي الكلمة المفتاح  لكل كلام آخر ، وليس هناك مفر من التسليم بأن الرغبة كانت أشد من الإرادة ، وأن المرأة  في تلك اللحظة المخجلة كانت أهم من الوطن .

كانت البداية في مزرعة مرسي البلتاجي ، لم يصدق أحد القصة ، ولكن محمد شلضم يعلم بواطن الأمور وأسرار البيوت والنفوس ، كما أكد نفس الرواية عشرة من الثقاة علي الأقل أبرزهم الشيخ متولي العشري ، وحاول البعض التخفيف من وقعها والتهوين من أثرها .

- وإيه يعني ؟ .. ماهم الأثنين حمير !!

ولكن المسألة هذه المرة ليست في الجنس ، وإن كانت تتصل بالجنس من طرف آخر ، المسألة أكثر عمقاً وإيلاماً مما قد يتصور البعض ، لذلك لم يكن غريباً أن تلطم أم السيد وتهيل التراب فوق رأسها ، بينما الشيخ متولي رغم آفة عينيه ، يقول :

- يا نضري .. مسكينة إتجددت أحزانها !! ..

ولكن الشاب سلام ينفخ عروق عنقه ، يستلذ فخامة حنجرته وهو يقول :

- لا يا آبا الشيخ .. اللي حصل عار وشنار ، ليس حزناً ودموعاً ..

رفع الشيخ متولي رأسه ، ماطاً شفتيه وهو يحوم بذراعيه كمن يريد أن يخبط أحداً علي قفاه ، وقال مشمأنطاً :

- فضوها سيرة بقي وكل حي يروح في حاله ، جاكم البلا .. بلد ناقصها نظام صحيح 


أشاح سلام بذراعه مستهيناً بكلام الشيخ ، وهو يتذكر تلك الجملة الشهيرة التي سبق لنفس الشيخ أن قالها وقد جملها بآية قرآنية : " يا ناس اعقلوا ، ربنا بيقول : وإن جنحوا للسلم .. والجماعة جنحوا ، جنحوا خلاص وانفضت السيرة .. أمال " ..

كل ذلك يدور كفقاعات في مجالس القرية بينما الحاج مرسي صاحب المزرعة لا يعلم شيئاً ، فهو علي كل حال يأتي لماماً ، وفي كل مرة يصطحب بعض الأصدقاء والمعارف الذين يثيرون بعجلات سياراتهم تراب القرية ، فلا هو ولا هؤلاء الزوار يطيقون أكثر من سويعات ، فالناموس والبراغيث تهاجمهم بلا هوادة ، دون أن تجدي معها أحدث أنواع المبيدات التي يختزنها الحاج ، فهي حشرات محصنة ، تبدو وكأن دماء الفلاحين التي تمتصها قد أكسبتهم نوعاً فريداً من المناعة ، وهذا هو رأي فريد البيسي أعز أصدقاء الحاج ، ورجل الأعمال الشهير ، وقد اقترح أن يتم تحليل دماء الفلاحين لمعرفة السبب ، ربما أدي ذلك إلي التوصل لنوع جديد من المبيدات الفعالة ، حيث يمكن آنذاك أن يتم شراء تلك الدماء وإقامة صناعات مربحة ، والمشكلة هي أن أغلب الفلاحين ليس لديهم دماء كافية ، وسيكون لازماً تغذيتهم أولاً ، وهي عملية مكلفة للغاية ، ثم أن الفلاح إذا شبع قد تتغير تركيبة دمه التي تحمل ذلك السر الفريد ، فهو لا يشكو أو يحك جلده أو يضرب نفسه كالمجنون بأثر هجوم تلك الحشرات ، بل يتحرك وينام في هدوء ، يقول فريد : أن كل ما في الريف جميل وساحر لولا تلك الحشرات ، وأولئك الفلاحون !! ، فالحشرات تقض مضاجعهم ، بينما الآخرون يشوهون منظر الطبيعة الجميل ..

الحاج مرسي في المزرعة اليوم للإحتفال بمناسبة خاصة وعزيزة جداً علي قلبه ، فهذا اليوم يوافق ذكري ميلاد " سناء " كبري أولاده ، وأول فرحة ، وباب الخير .. قبل ميلادها كان الحاج علي باب الله ، يعمل في أحد محال الخردوات في الموسكي ، ولأنه كان مسئولاً عن توريد الإيراد للبنك ، وتحصيل الشيكات ، فقد تعرف هناك علي بداية طريق سوق العملة الأجنبية الأسود ، وسرعان ما تزايد دخله ، واخترق سوق المقاولات في نفس الفترة التي رزق فيها بسناء ، حيث بني عمارتين في أرض اللواء ، أتبعها بعمارة في فيصل ، ثم عرج علي تجارة البودرة التي راجت رواجاً غير عادي خلال تلك الفترة ، واتسعت ثروته في زمن قياسي ..


اليوم يحتفل بقدم الخير ، لذلك فلم يبخل علي المناسبة ، فهناك حفنة من المطربين والمطربات الشهيرات ، وكوكبة من أهل الفن والثقافة والسياسة والتجارة ، ومنذ الصباح وأهل القرية يرقبون مواكب تلك الوجوه التي اعتادوا علي رؤيتها فقط في التلفزيون أو علي صفحات الصحف ، وهو حدث خطير في تاريخ تلك القرية ، ونقلة تقدمية غير مسبوقة ، لذلك كان أكثرهم شاكرين لأبن القرية الحاج مرسي الذي منح قريتهم هذا الشرف ، رغم أنه سليل أكثر عائلات القرية إحتقاراً وضعة ، فجده زكريا البلتاجي كان قاتلاً أجيراً ، وخاله مفتاح البسيوني كان نجس الذيل ، ومات في السجن وهو يقضي عقوبة سرقة بالإكراه ، أما أباه فكان مشهوراً بفضائحه مع الحيوانات ، وخاصة تلك القصة التي سارت بها الركبان عن واقعة ضبطه وهو يتسلل ليلاً إلي زريبة العمدة كي يواقع حماره !! ..

كل هذا الميراث المزري تغافلت عنه القرية وهي ترقب مواكب الكبراء والعظماء تتوالي إلي مزرعة الحاج ، وكانت الأمور كلها علي مايرام حتي إنكشف المستور ووقعت الواقعة ، فانقسمت القرية إلي أجزاء متعارضة ، فمن يؤيد ، ومن يعارض ، ومن لا يهتم ، ومن لا يفهم أساساً سبب تلك الضجة ، والحاج غير مدرك بما يدور ، هانئ بين ضيوفه مستعرضاً بينهم مظاهر ثروته في القصر المنيف الذي تحيط به أفدنة من الحدائق الغناء .

- هذا حقد ، وقلة مفهومية .. وديني وما أعبد هذا ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .

هكذا قال مسعود المدرس وهو يبحلق في المحيطين به بعينيه الجاحظتين من خلف نظارته السميكة ، ثم وكأنه في حصة دراسية رفع ذراعه الأيمن قائلاً :

- يا أهل الخير هذا رجل بركة ، وإينما حل وأيما فعل فهو بركة ، من يقول أن الحمار تطبيع يا ناس !! 

أنبري الشاب سلام بحماس وتهور :

- إسمع يا أستاذ مسعود .. رضينا بأنه يركب علينا ، وهو الواطي الخسيس ، رضينا بأن جده وأباه كان فيهما ما كان ، وبلعنا حكاية خاله والحمار .. لكن الحمار هذه المرة لن يمر علي خير ..

قال شيخ وقور في هدوء :

- يا بني كلها إشاعات .. الحاج مرسي من سلالة أولياء صالحين ، والدليل هو العز اللي بيتمرغ فيه ..

أمن البعض بتمتمة وتأتأة علي ما قيل ، بينما تحفز البعض الآخر وزام ، وسارع سلام صائحاً : 

- يا عالم .. كفاية جبن وقلة ذمة .. ومع ذلك أحنا قلنا عفي الله عما سلف ، ولكن العملة الهباب الأخيرة لا يمكن نقبلها .. وإذا لم نهدم قصره علي اللي فيه ، علينا نلبس الطرح ..

مسح مسعود نظارته وهو بادي التألم من وقاحة تلميذه السابق الشاب سلام ، لقد كان بإمكانه منذ سنوات أن يقرع مؤخرته ويلهبه بالخيرزانة ، ولكن الآن اختلف الوضع ، فالشاب سلام ثور عفي مفتول العضلات ، لذلك آثر السلامة وهو يتلفت حوله كمن يتأكد أن أشخاصاً معينين يسمعون مايقول ، ثم قال :

- يا إبني هذا دخول إلي عصر التكنولوجيا .. والحاج مشكور يريد الخير لقريتنا .. تخيل أن الحمار أصبح في حجم الفيل ، ويلد أربعة في بطن واحدة .. هذه يا ولدي معجزة علمية لا يجوز أن تفوتنا …

قهقه سلام وهو يدق بكفيه مثيراً ضجة هائلة وهو يدير رأسه الضخم ذات اليمين وذات الشمال ، ثم قال :

- حمار أيه وفيل إيه يا مولانا ؟ ! .. هذا تطبيع فاضح !! ، وأي كلام آخر هو ضحك علي الدقون …

دحرج الحاج متولي بعض حبات المسبحة ، قائلاً كمن يحدث نفسه :

- معلوم .. أم السيد لها حق ، إبنها مات في العبور .. لكن مالكم أنتم ومال الحمار ، حاجة تقرف !! ..

إلا أن الشاب سلام وبعض رفاقه أصروا علي أن ذلك الحمار يجب ألا يبيت الليلة في القرية حتي لا يدنسها ، بل يجب أن يقتل ويحرق ، ومعه كل الحمير الذين عاشرهم .

ووصل الموضوع أخيراً إلي أذن الحاج مرسي ، الذي أستخف بالأمر أولاً لدرجة أنه رواه لبعض ضيوفه ضاحكاً :

- تخيلوا المخابيل ولاد المخابيل في البلد ، قالبين الدنيا علي الحمار اللي أستوردته علشان يحسن السلالة !! ..

أجاب أحد رجال السياسة المرموقين من الحضور :

- ما هو أصل سلالة الحمير لو أتحسنت شوية ، ها تفهم أكثر منهم ..

ضحكوا وقرقعوا .. إلا أن شيخ الغفر لم يشاركهم وأصر علي أن الموضوع خطير ، ولا بد من مواجهة الأمر قبل أن يستفحل ، وهنا هاج الحاج وماج شاتماً في القرية ومن فيها ، وأقسم أن يطلق الحمار المذكور علي نساء القرية أيضاً وبعض رجالها المتمردين ، وأصبح الموقف متأزماً ، خاصة وأن الحاج أتصل منفعلاً بالمأمور ، ثم المحافظ مذكراً بأعمال الخير التي قدمها للمحافظة والقرية ، وأنه سيقطع تبرعاته لتلك الأعمال  إن لم تخمد هذه الفتنة ، متوعداً بأن عيد ميلاد سناء لابد أن يمر بخير وإلا فالعواقب وخيمة ..

وعندما وصلت قوات الأمن بكثافة إلي القرية ، وبدأ سلام وبعض أقرانه يعدون لمعركة حقيقية ، كان الحمير في الزريبة قد تكفلوا بحل المشكلة ، فقد أستقبلوا الزائر الجديد في أول الأمر بريبة وابتعدوا عنه ، ثم بدأوا ينفرون من مناخيرهم في ضيق وقرف  واضح ، ولحظة بدأ الزائر يحاول التقرب إليهم والتمسح فيهم ، هاجوا واندفعوا يرفسونه بقسوة ويعضونه في كل أجزاء جسده وخاصة منطقته الحساسة التي يتباهي بها ، فأصابه الذعر وولي هارباً وهو يتلفت حوله مذعوراً …

قال سلام وهو يتأمل الحمير بإعجاب :

 - حتي الحمير ، رفضت ..!! ، أتعلموا يا بني آدمين !!

التعليقات (0)