قصة قصيرة .. مستر مات.. إبراهيم القاضي

profile
إبراهيم القاضي كاتب و روائي
  • clock 14 يونيو 2021, 1:33:13 ص
  • eye 1151
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لا أعرف ما تصنعه الفلوس في نفوس البشر، وكيف تغيرها الي النقيض. الأسطى متولي الميكانيكي واحد من هؤلاء البشر، الذين كانوا يوزعون على الخلق الابتسامات، ويجعلون من خدودهم مداسًا للناس.. وبعد ما قصد ورشته جماعة من الخواجات، وصاروا زبائنًا يترددون عليه بانتظام، وفتح الله عليه من وسع، وانتفخ جيبه بالورق الأخضر..لم يعد لسانه يخاطبنا، وكأن أبوزيد خاله.. 

صار يغضب حين يناديه أحدهم بالأسطى متولي، خاصة بعد ما دفع دم قلبه للموظفين"كما قال بعظمة لسانه" وأبدل متولي المدون في السجلات الحكومية بمات.. أول أمس، وبينما نحن نمر أمام ورشته، إذا بأحد العيال المؤذيين، يرمي عليه التحية: صباح الخير يا أسطى متولي، فألقى ليَّ الجوزة أرضًا، ووقف كأن ثعبانًا لدغه، وصاح غاضبًا: صباح الهباب على دماغك ودماغ اللي جابك.. ولولا أبناء الحلال، الذين حالوا دون أن يفتك بالولد، ما بقى في جسده مكانًا سليمًا. 

لا أحد يعرف كيف "ماعت نفس" مستر مات، فالرجل الذي كان يشهق الفقر ولا يزفره، بدا متنكرًا لأصله وفصله، حتى امرأته، أصبح يحدثها مثل الخواجات، وحين تفغر فمها ذاهلة، يشيح بيديه ناحيتها، ويرطن بحديث في ما يبدو والله والجماعة الخواجات وحدهم أعلم، أنه يأتي على ذكر أمها وأبيها فيه بكلام قبيح.. 

ولما فاق السيل الزبى، ووصلت روح امرأته إلى الحلقوم من أفعاله، ألقت بسرها في حِجْر جارتها، التي نالت نصيبًا من التعليم، وحازت شهادة الدبلوم، وتتكلم انجليزي "لبلب"، هكذا وصفت نفسها.. وما أن انتهت الزوجة من حكايتها، حتى استلمت الجارة طرف الحديث، وجذبت رأس المسكينة ناحيتها، ووضعت فمها في أذنها، وهمست: متولي بيشتمك بالانجليزي يا هبله..

ورجعت المرأة إلى دارها، وهي تضرب براحتيها فوق رأسها، وتردد في ذهول: عليه العوض ومنه العوض.. وللحق الله يكون في عونها، فزوجها يبدو أن عينًا صفراء أطاحت برأسه، وجعلته يسب ويقبح، مع أنه زمان، قبل العز والفخفخة، لم يلفظ بكلمة عيب واحدة أمامها.. على كل حال، هي تعرف معدومة الضمير التي أعطته عينًا، لا أحد غيرها أم أربعة وأربعين، التي زارتها يومًا، حين عرفت بأحوال متولي الجديدة، وزغردت وصاحت بابتسامة صفراء وهي تحرك فمها يمنة ويسرة: مبروك للدلعدي متولي الرزم الخضره.. 

ومن يومئذ، وعقل متولي في النازل، يمشي في شوارع البلد، ويهذي كالممسوس: جود مور نينج ماي فريندز..

ما أصاب أهل البلد بالحيرة، وتضاربت الآراء حوله، وخاصة شيخ الجامع، الذي دعى له في صلاة الجمعة، أن يرد الله إليه عقله، كما رد يونس من بطن الحوت، وهتف أغلبية المصلين: آميييين! 

لكن بعض العيال المثقفين، عملوا فوضى وغارة في الجامع، كادت أن تتطور لولا ستر الله، ورفضوا دعاء مولانا لمتولي، وقالوا أن ما يقوم به، من إدعاء الهبل على الشيطنة، ليس إلا دورًا مرسومًا، من قبل أعداء الأمة، وأنه مثل شجرة "هالوك" نبتت خلسة في أرض فول، مهمتها خراب الأرض، وصاح أحدهم غاضبًا: متولي مزروع من ال  CIA، لخراب الدور والعقول يا بلد.. 

ورغم أن الناس، لم تفهم أغلب ما ردده هؤلاء، إلا أن حديثهم وجد صدًا عندهم وخاصة مع التغير الدراماتيكي في حياة متولي، فالرجل الذي كان لا يفرق بين الألف و كوز الذرة، صار يرطن بالأمريكاني، أحسن من العيال الأفندية أصحاب الشهادات، وتلك أمارات استرشد بها الناصحون في بلدنا، لاثبات علاقته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية، وقال أحدهم ردًا على الغير مصدقين: الأمريكان الفجرة يقدروا يلعبوا في دماغ البني آدميين ويغيروها كمان، دول بيصنعوا بني آدميين في معاملهم يا بهايم!

غير أن جماعة من بلدنا، لا يعرفون ال CIA، ولا يشغل بالهم، سوى الظهور المفاجئ للنعمة على وجه متولي، الذي أحمر، وبدا كما الأجانب، بعد أن كان أسود من ليل العازب.. وبدأت مشاعر النفسنة تسري في شرايينهم، خاصة النسوان اللائي استكثرن كل هذه النعم على امرأته، ورددن متحسرات: العوجه لها حظ! 

من قبل، كان متولي ميكانيكي على باب الله، ليله مثل نهاره، لكنه مثل كل البشر، ثمة جوانب مظلمة في شخصيته، لا يدركها غير المقربين، فالرجل الذي كان لا يترك فرضًا، وعلامة الصلاة منورة في وجهه المعتم، هو نفسه من يرى أن الكذب على الزبون، وهو نوع من الخداع الاستراتيجي المباح، لأجل لقمة العيش، وقوانين الحياة تجبرنا على ضرورات تبيح المحظورات.. 

بيد أن العيال المثقفين، لا يريدون أن يقصروا الشر، ويكفوا خيرهم شرهم، ويسكتوا، وأثاروا الفتن في البلد، وتجمعوا يوم غزو أمريكا للعراق أمام الورشة، وهتفوا: يا متولي يا جبان، يا عميل الأمريكان.

وتسلق أحدهم فوق جدران الورشة، وأنزل اللافتة الحديثة، المُدون عليها"ورشة مستر مات" بماء الذهب، وأزالوا صورة متولي الكبيرة المعلقة على الحائط، وأعينهم تنطق بالشر والغضب، وداسوا عليها بأحذيتهم، وأشعلوا النيران فيها، وكأن بينهم وبين الصورة ثأرًا قديمًا.

لا أبالغ، إن قلت أن ما حدث لابن بلدنا متولي، يشبه ما جرى يوم انهيار برجي نيويورك، فما قبله، ليس كما بعده، والأسطى متولي صار مستر مات..



التعليقات (0)