- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
قصة قصيرة :قصة حب.. محمد الشناوي
قصة قصيرة :قصة حب.. محمد الشناوي
- 1 مايو 2021, 1:34:32 ص
- 1502
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قصة حب
فريدة فريدة بالفعل وبالقول, بالحركة والسكون , بشتي تبدلات حالها
عرفتها منذ ما يزيد علي سبعة وعشرين عاما ، كنا ساعتها نعمل سويا في التليفزيون
كان يأسرني فيها ربطة شعرها وإنسكابه في ضفائر كثيرة علي ظهرها المائل لإنحناءة تزيدها ثقة وبهاءا
ظللت خاضعا لتموجات شعرها الكستنائي حتي ذهبت إليها في غرفة الدوبلاج , كنت كالمراهق الساذج الأعمي الذي لا يري من حوله من ناس رغم كثرتهم في غرف الدوبلاج التي تفصل بينها بألواح زجاجية شفافة
لا أتذكر الآن اي كلمة مما قلت لها , لكني أتذكر أنها كانت سعيدة بحالي الذي يشبه حال المجانين .
كان سحرها طاغيا .
صعدت سلم مبني التليفزيون , وارهقتني الأدوار السبعة التي صعدتها .
توقفت لأستريح , طال إنتظاري , حتي أنني جلست علي السلم , وكان خاليا من أي أحد غيري
فوق رأسي كانت لمبة مضاءة تصنع خطوطا ومكعبات من الظل الكثيف تتحرك حركة اشبه بشريط سينما
سمعت أقداما تصعد السلالم أيقظتني من حلمي اليقظ
فجأة كانت فريدة امامي , وكأنني جئت من عالم آخر تصرفت بتلقائية الرجل البدائي، لا أعرف كيف سقطت شفاهي الملهوفة علي شفاهها الطرية
شعرت منذ اللحظة الأولي أنها استسلمت للدفء الذي صار بيننا وأنها مثلي تشعر بحاجة ماسة لأن نظل ملتصقين أبد الدهر وألا نفترق .
مرت أيام وشهور وأنا في انتظار قبلة أخري , لا أنكر لذتي وأنا في انتظار فرصة أخري للخضوع لشفتيها الدافئتين
صار حجم ما كتبت عنها ولها هائلا , ببساطة يمكن أن يصنع كتابين متوسطي الحجم، قصص قصيرة , أشعار , خواطر , أفكار وأفكار ، كل شيء بإسمها ولها وعنها وهي بروحها الشفيفة استطاعت أن تختزل العالم في ذاتها
قلت لها سأكتب عنك كتابا اسمه ( الفيلم الأخير )
سأقص فيه حكاية موتي فيك حتي الرمق الأخيرة يا فريدة
مر علينا سنتين منذ كانت القبلة الأولي , قبّلتها خلالهما سبع قبلات ، في كل مرة كنت أقص عليها حكاية نفسي التي عشقتها بدون كلام ، كنا نبدو فرحين طيبين صادقين مؤمنين أن الحق والخير والجمال ما هو إلا نحن ولا أكثر حين نلتهم بعضنا في رحمة .
لكن القدر لم يمهلنا كثيرا من الوقت لننعم بجحيم القبل
قالت لي أنها صارت تعاني من إلتهابات في اللثة وأنها لم تعد تقوي علي تقبيلي فصرت ألامس شفتيها بشفتيّ وأبقي ساكنا حتي يغسل وجهي دفء انفاسها في الشهيق والزفير
صرنا نجلس نتأمل أنفسنا بالساعات نتدرج صعودا وهبوطا بحثا في ملامحنا عن نقطة شعور وبؤرة سعادة
حولتني لطفل صغير يجلس في صمت يستمع لحكاياتها توقفت عن الكلام وفتحت مسامي لكلامها الودود
صرت مشدودا لطريقتها في الحكي وهي تنطق الحروف وتضغط علي الكلمات وتتلعثم أحيانا
حكاياتها أخذت بلبي , وأذهبت عقلي وهذبت نفسي وأثارت خيالي
في السنة الثالثة أو الرابعة من بعد القبلة الأولي صرنا لا نلتقي إلا في الشتاء ونهايات الخريف ، حين تبدأ السماء تنثر ظلالها علي الحياة وتبدأ الريح في حركة خفيفة طيعة أما الربيع والصيف فقد صارا فصلي الغياب الكامل كأننا غير موجودين في الحياة .
بعد سنوات من إيقاع لقاءاتنا الجديد صرت أخاف عليها من برد الشتاء ومن آلام العظام التي بدأت تشكو منها ,اقترحت عليها أن نلتقي في أماكن مغلقة وأن ننسي لقاءاتنا علي شط النيل والمشي في دروب المدينة
وأن نلتقي في مكتبات عامة او دور نشر أو اتيليهات فنية لكنها رفضت الوجود بين الناس وطلبت مكانا تستطيع أن تغفو فيه بعض الشيء وأن تتمدد إذا شاءت ولما طال بحثنا اقترحت عليها أن نؤجر شقة ببلكونة.......
ومع القليل من البحث وجدنا شقة في شارع الأزهر تطل علي المشهد الحسيني بصخبه الدافئ
في بلكونة شقة شارع الأزهر استمعنا معا لكل قصائد العشق الإلهي غناها في مولد سيدنا الحسين الشيخ ياسين التهامي ومن علي شاكلته من العشاق المنشدين .
اندهشنا من اللغة وباللغة في قصائد ابن الفارض
صارت فريدة ممسوسة بقصائده هائمة بحبه
لم تصبني الغيرة بل أصابني السؤال ( هل سترجع فريدة مرة أخري أم أنها قد سُحرت وانتهي الأمر ؟
كان كل يوم يمر يؤكد أنها في الطريق لأن تصبح درويشة
احتوتني بالكامل في عشقها الصوفي حتي صرت خفيفا في كلامي وحركاتي ولفتاتي واندهاشي اللامحدود بها
رغم أنا صرنا كهلين فإننا كنا نحن لأيام الشباب حين كنا نخرج للعشاء سويا في حاتي الأزهر حيث الكوارع والكرشة والطحال والكبدة والقلب أو ما يسمونه فاكهة اللحوم
اقترحت عليّ أن ننزل لنأكل سويا في نفس الحاتي وحين قالت حاتي الأزهر ابتسمت طويلا .
في المطعم حكت لي كل حكايات الطعام والطهي , أنواعه أشكاله , متعة الخلق , خلق الوجبة , خلقها من غابة من الخضروات والتوابل واللحوم وكل ما يمكن أن يؤكل
شبعت حتي أني تخيلت أنني لن أشتهي طعاما مرة ثانية يا فريدة
كل يوم نكبر فيه تختفي أشياء من حياتنا وتظهر أشياء وتتبدل حالات ويسيطرعلينا هاجس الشيخوخة .
أصبحنا نجلس كثيرا من الوقت بدون حركة نتقلب فقط علي جنوبنا وظهورنا .
صار لنا أشياء لا بد أن تكون بجانبنا طيلة الوقت لنستطيع أن نطمئن لجلستنا ، زجاجة المياة ,علبة السجائر , ورق البفرة حين تحن علينا الحياة بسيجارة حشيش
ساعتها كنا ندخن سويا وتصفو ارواحنا ونكاد نصبح أطفالا مرة أخرى
مرت سنوات حتي أيقنا فعلا أننا كبرنا وصرنا علي عتبات الشيخوخة ، هل علينا أن نودع بعضنا ؟
هل لنا بإعتراف أخير صادق لأنفسنا ؟
صرنا كالأطفال نتساءل عمن سيموت قبل الثاني .أنا أم هي ؟ صرنا نتساءل عمن سيبقي حتي النفس الأخير يحب الآخر ويتحمله؟ أنا أم هي ؟ صرنا أكثر رحمة ببعضنا
صرنا متسامحين أكثر مع كل ما يزعجنا من أشياء واشخاص كبائع الأنابيب وحامل القمامة ، صرنا أكثر شفافية من أي وقت مضي ، صرنا متلاحمين في مواجهة الأيام ، متكاتفين في مواجهة الأرق بليالي أم كلثوم وأغانيها .
لا أرغب أن أتأمل كثيرا اللحظة التي أري فيها الحياة بدونها ، بالفعل وددت لو أني مت قبلها
لأتركها تبكي بكاءا وديعا جميلا ينساب في خطوط وجهها المنحوت
...... .
فريدة ماتت في 2011 في شهر يناير
كانت تجلس قبالتي في بلكونة شارع الأزهر , بيدها مسبحة كاللؤلؤ , وفي فمها قصيدة لإبن الفارض .
ظلت تغني بصوت أعلي من المعتاد , كان صوتها دافئا حتي أنني تنبهت إلي أنني اسمعها بشغف وكأنني أسمع صوتها للمرة الاولي
ظلت تغني حتي أغمضت عينيها وراحت في النوم
لم أعرف أنها ماتت إلا عندما دعوتها لتدخل حجرتها لتنام ولأذهب أنا .
فريدة فريدة فريدة ولم ترد فريدة
...