- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
الناناكية ليست حلا
في منتصف القرن السادس عشر الميلادي كانت الهند تعاني من اضطرابات وحالة من رفض التعايش بين الهندوس والمسلمين، فالهندوس من جهة كانوا يرون المسلمين أصحاب ديانة غريبة عن الهند وعن التراث الهندي وتحط من شأن المعتقدات الهندوسية وكان المسلمون ينظرون للهندوس من جهة أخرى بوصفهم وثنيين مازالوا يعيشون في الجاهلية الأولى.
في هذا الوقت كان ناناك المعلم الهندي الذي ولد بالقرب من لاهور يتوجه إلى مكة المكرمة للإعلان والتبشير بدعوته الجديدة.
كان ناناك هندوسي الأصل إلا أنه عاش وسط المسلمين وبرومانسية أقرب إلى الخيال الغير الواقعي أطلق دعوته الجديدة وبشر بدينه الجديد الذي يجمع بين الهندوسية والإسلام والذي عرف بالديانة السيخية.
ربما كان ناناك صادق النية في محاولته لم الشمل وعمل "دين جديد" يوحد المتناحرين في الهند عن طريق توحيد الإعتقاد .. فالقاعدة التي انطلق منها ناناك هي أن التعايش السلمي يعني التوحد والذوبان !
في الحقيقة لم يدرك ناناك أن الإختلاف طبيعة بشرية ولم يكن يعلم ما سيحدث بعد قرون من وفاته من ان نفس الوضع سيتكرر بين الهندوس والسيخ في الهند، لو كان حيا لاطلع على أخبار الهندوس وهم يقتحمون المعبد الذهبي في 1984 ولرأى السيخ أتباعه يغتالون رئيسة الوزراء انتقاما ولقرأ يوميا عن الصدامات بين أتباعه وبين المسلمين في باكستان.
هذه النزعة الناناكية الرومانسية مازالت تسري عند كثير من المفكرين والمنظرين الذي يعتقدون للأسف أن التعايش هو مرادف للذوبان وليس الإتحاد وأن التقريب يعني الإقتناع بمعتقد الآخر او التنازل عن معتقد في مقابل ارضاءه، وأنه لكي يحب بعضنا بعضا علينا ان نخترع موقفا وسطا يرضي عقادئنا جميعا.
هذا الخط موجود حتى اليوم في بلداننا وينظر الناس لأصحابه أنهم مفكرين عظماء ومحبين للوحدة والسلام. فمن جهة يتم الحديث عن الشيعة والسنة على سبيل المثال انه على طرف منهم ان يقدم تنازلات فيما يعتقد ليرضي الآخر من أجل التعايش سويا ! ومن جهة أخرى أصبح على المسلم ان يعتبر الدين المسيحي دينا صحيحا ولا يخالف عقيدته ومن المفترض أن يؤمن المسيحي كذلك ان القرآن كتاب سماوي منزل وأن الرسول محمد نبي يوحى إليه حتى نستطيع التعايش؟
بل إن هذه النزعة وصلت حتى للسياسيين واصحاب الأيدولوجيات فنجد مثلا أن مفهوم "الإسلام الوسطي" أصبح مرادفا لكمية التنازلات التي من الممكن أن يقدمها العالم الإسلامي ليرضي المفاهيم الغربية. ونجد من جهة أخرى ما يسمى باليسار الإسلامي ونجد الليبرالية المتدينة والرأسمالية ذات التوجه الإشتراكي والليبرالية الشمولية .. إلخ
من جهة أخرى بدأ بعض السياسيون والمنظرون وأصحاب الايدولوجيات وبطريقة براجماتية غير نظيفة الاستفادة من هذا المنهج، فيحاولون الوصول للقطاع الأكبر من الناس عبر دمج الأفكار والنظريات ليرضوا جميع الأذواق ويحصدوا أغلب الأصوات كذلك رجال الدين والمفكرين والمتفلسفين الذين لا يدخرون جهدا في الجمع بين المعتقدات المتناقضة ليصبحوا رمزا للسلام والمحبة والوئام.
والجدير بالذكر أن هذه المحاولة دينيا تكررت بالفعل بنفس الطريقة الناناكية تقريبا فيما يعرف اليوم بالدين البهائي.
كل الأديان واحد وكلها صحيحة وكل المعتقدات صحيحة وكل الأيدولوجيات السياسية والإقتصادية صحيحة وكل المتحاربين في التاريخ كانوا على صواب وكله زي الفل ولنعش في حب ووئام وسلام.
السحر الأردوغاني التركي الذي استطاع ان يجمع العلمانية والإسلام في بوتقة واحدة ويقدمها للمسلمين بوصفها حلم الخلافة هو نوع اخر من استغلال الناناكية لتوحيد الراية وحصد الأصوات.
مشاهد رومانسية خلابة تدعو للوحدة وفق هذا المفهوم تملأ الإعلام العالمي. مع أن أحدنا لو أعاد السؤال على الجميع وطلب التفكر مليا لأختلفت الإجابة.
ما معنى التعايش وقبول الآخر ؟
بالتأكيد أن معناه يتضمن ان يكون هناك آخر اصلا، فلو لم يكن هناك آخر لما احتجنا لاستخدام مصطلح التعايش او الحديث عن قبوله.
فليس الهدف ابدا هو ان يكون الناس شيئا واحدا أو ان يعتقد شخص بصحة معتقد يتناقض مع معتقده ان نقدم شيوعية إسلامية للتقريب بين النقيضين. وإنما المطلوب هو ان نتعلم ان التعايش هو قبول وجود الإختلاف وليس الرضا والإقتناع به. وأن نقبل ان ينظم القانون وقواعد العدل العلاقة بين المختلفين وان يكون التعامل بين الناس بالعدل والحق والرحمة.
فالمسلم الذي يعيش في دولة اغلبيتها غير مسلمين لا يريد ان يقتنع غير المسلمين بدينه إلا من باب حب معتقده، اما ما يريده واقعا كمواطن هو أن يحظى بحقوقه وأن ينصف في بلاده.
وكذلك المسيحي الذي يعيش في دولة إسلامية لا يهمه كثيرا كونك تظهر دموعك حبا له وتردد انجيله وتحمل صليبه وان تقول له انه سيدخل الجنة وان كلنا ديننا واحد. ثم يرى حياته العملية واليومية مصداقا للتمييز والغربة. اذا كنت تعتقد انه ضال وسيدخل النار فهو لا يهتم كثيرا لهذا أو ذاك وانما يريد دولة القانون والعدل والتعايش بدون تمييز.
لن يهم المسلم ان يقول الرئيس الأمريكي عن الإسلام انه دين سماوي عظيم وان المسلمين عظماء ثم يأتي بطائراته لقصف بلدانهم ونهب خيراتهم. وإنما يهم المسلم ان يحترم العالم رغباته وان يأخذ حقوقه في النظام العالمي.
الناناكية ليست حلا .. فوقت الجد يختفي الهزل وترى الناس يعودون لتعصبهم. وانما التعايش وقبول الآخر هو الحل.
الناناكية ليست حلا .. فوقت الجد يختفي الهزل وتظهر حقيقة المصطلحات الزائفة كالإسلام العلماني والليبرالية المتدينة والرأسمالية اللطيفة والشيوعية الإسلامية.
الناناكية لم تكن حلا أبدا والمعبد الذهبي في الهند شاهدا ودماء المسلمين التي تراق على ايدي السيخ سائلة وقتلى السيخ على يد الهندوس عددهم في زيادة مستمرة.