- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
الأقصر.. مدينة الأحياء الذين لا يموتون، والأبطال الذين لا ينكسرون
الأقصر.. مدينة الأحياء الذين لا يموتون، والأبطال الذين لا ينكسرون
- 18 أبريل 2021, 2:51:56 ص
- 1148
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قراءة في رواية "سيرة الشيخ نور الدين" لأحمد شمس الدين الحجاجي
(لقد قضى هذا اليوم حزينًا فقد أعلنت مصلحة الآثار أنها ستهج الساحة وتزيل المقبرة القديمة غدًا، بلغه الخبر بعد صلاة الظهر وهو جالس في الساحة مع أبناء عمومته، فنزل عليهم كالصاعقة.. صرخ وحيد الحفني أصغر الموجودين في الساحة، وهو الذي يقوم على خدمتهم في الساحة: "مش ممكن مش معقول")
"الحكومة ستهدم الساحة" هذه هي أزمة الشيخ نور الدين المعجِزة، لأول مرة يشعر بالعجز أمام شيء، هو الذي قدر على تحطيم كل عائق يقابله؛ فلم يهزمه الأبطال في "المرماح" وعاد بالجمال مع بصيري العبادي متغلبًا على قطاع الطريق، ورادًّا وحده الجمال التي اغتصبوها منه العبادي، هو الذي أغلق بيت الخواطي الذي أقرته الحكومة، هو الذي وقف ضد الإنجليز من أجل سعد زغلول، رحلة كبيرة في حياة الرجل "نور الدين الحجاجي" وإن بدا أن هناك شخصين يستأثران بالأحداث؛ نور الدين وابنه محمود، إلا أن الحقيقة أن ابنه هو نافذة جديدة على أثر نور الدين، أو بتعبير أدق هو راوي هذه السيرة.
أحمد شمس الدين هو أستاذ متفرغ بجامعة القاهرة، تخصص في المسرح والأسطورة والأدب الشعبي، ولد في الأقصر 1935، وحصل على الماجستير في النقد المسرحي في مصر والدكتوراه في الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، وهو صاحب نظرية أن الرواية العربية بنت السيرة الشعبية العربية، وأن المسرح العربي ينتمي لفنون الفرجة الشعبية، كما أن له مؤلفات عدة في المسرح منها: "مدخل إلى المسرح العربي" و "المسرحية الشعرية العربي" ويعتبر كتابه: "مولد البطل في السيرة الشعبية" عمدة الكتب في هذا المجال، إضافة إلى روايته "سيرة شمس الدين" التي حولت إلى مسلسل تلفزيوني لاقى نجاحًا كبيرًا ويحمل عنوان: "درب الطيب".
"سيرة الشيخ نور الدين" التي كتبها أحمد شمس الدين الحجاجي عن أبيه شمس الدين الحجاجي، ومركز احداثها هو مدينة الأقصر؛ فالجميع يذهب ويأتي إليها، وبدت الساحة هي المكان الأول في الرواية.. لكن أين كانت هذه الساحة؟ وما سبب هذا الاهتمام بها؟ ومن هو نور الدين؟
عُرفت الأقصر عبر العصور بأسماء عدة، ففي بدايتها كانت تسمى مدينة "وايست"، ثم أطلق عليها الرومان بعد ذلك اسم "طيبة"، وأطلق عليها كذلك مدينة المائة باب، كما وصفها الشاعر الإغريقي هوميروس في الإلياذة، وسُميت كذلك باسم "مدينة الشمس"، "مدينة النور"، و"مدينة الصولجان"، وبعد الفتح العربي لمصر، أطلق عليها العرب هذا اسم "الأقصر" حيث إن المدينة كانت تحتوي على الكثير من قصور الفراعنة. يرجع تأسيس مدينة طيبة إلى عصر الأسرة الرابعة، وقد ذكرها ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار": 'ثم سافرت إلى مدينة الأقصر وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل، وهي صغيرة حسنة، وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري. وعليه زاوية.
وسكان الأقصر حتى نهاية العقد الأول يعيشون داخل معبد الأقصر، بيوتهم ومساجدهم، ولم يكن أحد يتخيل منهم أن يتركوا هذا المكان أو أنه سيصير مزارًا سياحيًّا بعد أن ظل لمئات السنين سكنا لهم ولأجدادهم، ومع الاهتمام بالآثار المصرية بدأت الحكومة المصرية في العهد الملكي في إخراج المنازل، ولكن الشيء الغريب هو أن الحكومة لم تقترب من ساحة "أبو الحجاج" ومسجده وتركتهما داخل المعبد، يقصد الناس المسجد للصلاة، ويقصدان الساحة للذكر ويقوم الحجاجية على خدمة الضيوف.. لكن الأمور لا تقف عند هذا فتقرر حكومة ثورة 52 أن تخلي معبد الأقصر تمامًا.
(تنازعت الشيخ أفكار شتى.. شعر بالعجز المطلق وقسوته تحرق قلبه، سمع دقاته سريعة قوية، ترك أهله دون أن يسلم وخرج من باب الساحة نزل درجات السلم المرتفع ليصل إلى الطريق... لقد وجدت الساحة مع وجود أسرتهم في مدينة الأقصر...)
يفكر نور الدين في الحل، هل يترك قومه يقاومون الحكومة في معركة غير متكافئة؟ هل يترك الساحة التي ورث زعامتها من أبيه، والفتوى التي تسلمها من الشيخ الطيب؟ يحدث هذا فيما يقوم بحل مشكلات الأقصر وما حولها، وفيما زوجته خائفة من زواجه مرة ثانية؛ فقوته على حالها، بل تزيد.
(تقف الساحة فوق مرتفع من الأرض يعلو المسلة المجاورة للمعبد، وبجوارها تمثالا رمسيس لا يظهر منهما غير النصف العلوي من الجسد بينما تختفي بقية التمثالين تحت التراب)
يختار المؤلف أن ينحاز إلى شعرية السرد؛ فيكسر الخط الزمني جاعلا منه دائرة، يذهب ويعود إلى الشيخ نور الدين وهو يبحث عن حل لهذه الفتنة.. هذا الاختبار.. جاعلاً أزمة نور واختباره تستدعيان كل الأحداث من هذه الجهة: الاختبار؛ فالبنت التي يغرر بها ابن أحد الجيران، وتأتيها أمها لتنقذها من الموت فجرًا تشبه "عطيات" حبه الوحيد.. والجنيهات الذهبية التي يكون أحدها علامة على حل إحدى المعضلات هي مهر هذه المحبوبة التي عرض نور نفسه للخطر وذهب في رحلة خطرة إلى السودان ليأتي به، وبيت الخواطي الذي هامت عشقًا به فاتنته حتى دفعت مائة جنيه ذهب لترى وجهه، يغلق بعد أن يطهر نور الدين قلب العاهرة، ويزوجها من عمدة ينحدر نسبه إلى الزناتي خليفة.
الحل، في يد نور الدين، مهما كانت العقدة، حتى في شبابه حين انتفض وخرج على الإنجليز ليكبدهم الخسائر؛ ليعيدوا سعد باشا، وقتها لم يستطع الإنجليز القبض عليه، رغم أنهم جندوا العمد الذين لم يجسروا إلا على استضافة الشيخ الولي ابن الأولياء.. ولم يقع في أيدي الإنجليز إلا عندما حاول أسر بعضهم في فندق ونتر بالاس.. الغريب أن الجميع كان متأكدًا من إعدامه.. لكنه لم يعدم ولم يسجن بل خرج هو وأصحابه فيما يشبه المعجزة، وحين يتساءل عن أسباب الهزيمة يأتيه الشيخ الطيب مفتى العائلة الحجاجية والأقصر؛ ليطلب منه الصبر.
الرواية هي سيرة شعبية بقانونها المعروف، وحلقاتها الأربعة؛ مولد البطل نور الدين، الذي يأتي عبر دعوة ونبوءة: " اللهم أجبر كسره بنور الدين أبو البركات .... والكل يَشْهدُ ويُقْرُّ أنه منذ هذا التاريخ ذهب مصطفي يونس إلى بيته وجامع امرأته ، حتى جاء نور الدين بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال" , وتربيته وحفظه للقرآن ثم خدمته لضيوف الساحة وعدم قدرة أهله عن الاستغناء عنه، ثم تمرده على دوره الذي رأى أنه أقل من قدراته، وبحثه عن دوره الخاص فيركب حماره ويخرج، لكن عمه يتبعه فيعيده، ويفاجأ بأن أباه يوجهه للتعليم في الأزهر، وهناك يقع في الحب، ويرسل لأبيه طالبًا الموافقة، ثم يذهب ببعض أهله لخطبة محبوبته، ويدفع عشرين جنيها ذهبيا ويذهب لإحضار بقية المهر في رحلة وعرة لإحضار جمال من السودان، يأخذه بصيري العبادي دون أن ينبهه لما سيجري لهما من أخطار على يد قطاع الطريق، وحين يعود يجد عطيات قد ماتت.
يعود في الحلقة الثالثة "الحروب الكبرى وأداء الدور" إلى الأقصر فيستوي على فرسه ويكمل دوره؛ الدفاع عن الحق والخير والجمال؛ فيساهم في فتح مدرسة مسيحية لتعليم أبناء الأقصر، ويصبح بيته موئلا وملاذًا للجميع. أما حلقة السيرة الرابعة (الأيتام) فقد آثر الحجاجي أن يعرض منها نتفًا فها هم أولاد نور الدين وأقاربه يتجمعون قبل وفاته... لكن الراوي لا يكملها.
النص يكشف عن بطله الشعبي بطريقة معقدة؛ ففيما يدرك البطل أنه يحاول فقط، يراه الناس صاحب كرامات، وفيما يخاف البطل من انتصار العجز والظروف عليه، تحل الأمور على يديه؛ فدياب الذي نسي أهله وناسه، واستقر بالقاهرة، وعاد ليحصل على آخر ما له من أخيه، أو يبيعه للأغراب تخرج عليه أمه لأول مرة غاضبة، ثم تذهب لنور الدين وتعطيه مصاغ البيت والمال الموجود وتطلب منه حل المشكلة. وصليب المسيحي الفقير الذي يريد الزواج من تريزا المسيحية بنت الأغنياء، وعزيزة بنت منوفي ومشكلتها مع يونس بن مصيلحي، هذه الأمور التي تحدث قبيل موت نور الدين، يحدث مثلها أيام فتوته، حين ينتزع رفيقة من بركة الدعارة ويزوجها من العمدة سيد أبو حسين الزغبي؛ لتتحول فيما بعض شخصية أسطورية تعيد إلى ابن زوجها العمودية التي تسحبها الحكومة منه، وتساعد زوجها في وقته مع الحجاجي: (محنا حنتعب لحد ما نلاقي نور الدين وانا لازم ألاقيه.. يا أنا يلنكيز يا رفيقة.. أخذ سيد يبرم شنبه، ثم قال في هدوء وثقة: ما يبقاش دا على راجل إذا ما أدبش الإنجليز... ما يبقاش دا على ولد الزناتي خليفة إذا ما رجعش سعد باشا)
لا يحكي الولي عن نفسه، ولا يبوح البطل الشعبي بما فيه، إلا أن يقول الناس ما رأوا، ويكملوا من عندهم ما يريدون؛ لذلك فما نعثر عليه من سيرة الشيخ نور الدين هو محصلة ما يقوله الناس؛ لذلك يلجأ الراوي إلى إدخال بعض شخصيات النص إلى غرفة نور الدين بعد وفاته، ثم يبدأ في ترك البراح لها لتطلق ذكرياتها معه، وتصوراتها عنه.
بين بداية النص ونهايته يوم واحد، وهو كشف عن نزوع الحجاجي للمسرح، فما بين علم نور بأن الساحة ستهدمه وما بين قيامه هو بضرب أول معول، يتحرك النص زمانيا ومكانيا، لكنه يظل مرتبطًا بهذا البطل الشعبي الذي أنتجته جماعته مدافعًا عنها: (تنقلت نظرة محمود إلى النجم.. إل النهر.. إلى الجميزة.. شعر بأن أبا زيد الهلالي سلامة لم يمت.. ونور الدين لم يمت.. ولم يهزم النهر أحد.. والجميزة لن تموت.. ستبقى جذورها في النهر قوية لتلد أشجارًا أخرى... نزل الماء، شعر برغبة أن يلمس القاع ويمسك الجذور... وصلوا ع النبي).