معصوم مرزوق يكتب : تأملات في زمن البندقية

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 3 أكتوبر 2021, 4:06:17 م
  • eye 7294
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كان الدخان كثيفاً فلم أتبين أن رفيق السلاح قد انكفأ في الحفرة المجاورة ، والموقف غامض غير مفهوم ، ولا أحد يرد علي نداءاتي المتكررة في جهاز اللاسلكي : " من بدر1 إلي بدر .. هل تسمعني ؟؟ " .. أدركت وقتها أن تلك هي معركتي الختامية ، وأنني سألحق بمن سبقوني من الرفاق ، ولكن لم يكن لدي ترف التفكير والتأمل ، فقد كانت دبابات العدو تطبق من كل اتجاه في طريقها لموقع القيادة المتقدم للجيش الثالث المصري .. شعور واحد تسلط علي كل المشاعر الأخري :" أنني في هذه اللحظة مسؤول عن مصير الوطن " ...

كان ذلك ظهر يوم الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1973 ، وبعد مرور ساعات علي إعلان وقف إطلاق النار بعد قرار مجلس الأمن رقم 338 مساء اليوم السابق .. ولا زلت أتذكر رقيب الفصيلة " رضوان " وقد جاءني بعد أن أذيع القرار في المذياع وتلقينا الإشارة اللاسلكية ، جاءني رضوان ليستأذن أن نسمح للجنود بخلع أحذيتهم والإسترخاء ، فطلبت منه في خشونة أن يعود إلي موقعه في الكمين مشدداً علي ضرورة اليقظة .. لا زلت أذكر نظرة الدهشة في عينيه وكأنه يتساءل عما أصاب الضابط الشاب ، فلقد أعلنوا انتهاء الحرب ، لقد اصبحنا خارج المعركة ، وقد كانت تلك آخر مرة أتحدث فيها الرقيب رضوان حيث تواري في الظلام عائداً إلي موقعه ... 

كنا نبتلع أقراص "الريتالين" كي نقاوم غلبة النوم طوال أيام الحرب ، ومع ذلك فقد غفلت عيناي لدقائق صباح يوم 23 أكتوبر حتي استيقظت علي صوت انفجارات مدوية ، وشاهدت طائرات العدو تحوم فوق رؤوسنا علي مستويات منخفضة وهي تلقي بقنابلها حولنا ، وعلي مرمي البصر كانت هناك تشكيلات لدبابات العدو تثير الرمال وهي تتقدم حثيثاً في اتجاهنا ، فأصدرت أوامري لفريق المهندسين العسكريين بالبدء في تنفيذ الخطة المتفق عليها لتلغيم مدخل المدق 12 ، والتأهب لصد الدبابات ، وصحت بصوت عال كي يسمعني كل أفراد الكمين وأنا أذكرهم بأنه لن يطلق أحد النار إلا بعد إشارة مني ... 

كنت أدرك أن ذلك ليس أسلوب قتال الصاعقة ، فقد تدربنا علي الكمائن الليلية والإغارات ، وأساليب القتال التي تعتمد علي الكر والفر ، ولم يكن عددنا أو تسليحنا يتيح لنا القتال بأسلوب قوات المشاه في الدفاع الثابت داخل الخنادق ، وكنت أظن أن تكليفنا صباح يوم 22 أكتوبر بنصب كمين عند مدخل الطريق المؤدي للموقع المتقدم لقيادة الجيش الثالث هو مجرد راحة لوحدتي الصغيرة بعد أيام متتالية من القتال المتواصل ، ولكنني لم أكن أعرف أن ما ينتظرني هو أقسي معركة كتب علينا خوضها بعد انتهاء الحرب بشكل قانوني وفقاً لقرار مجلس الأمن .. 

بعد ان انقشع الدخان رأيت وجه الجندي مصطفي وقد تغطي بالدم منكفئاً في حفرته وبندقيته بين ذراعيه وكأنه يعانقها ، زحفت إليه وتأكدت أنه نال الشهادة ، فعدت مرة أخري إلي حفرتي وأنا أتابع تشكيل الدبابات الذي بدأت ملامحه تتضح ويزداد اقتراباً وهو يقصف بجنون في كل اتجاه ، ومن خلفه كانت ثلاث طائرات هليوكوبتر تطلق من بطونها صواريخ تسير بخطوط بيضاء ثم تنفجر خلفنا مباشرة ، ناديت علي قواذف الآر بي جي للتأهب ، وطلبت من الجميع إعداد القنابل اليدوية المضادة للدبابات ، ثم وجدت نفسي أهتف في جنودي : " مش ها يعدوا إلا فوق جثثنا .. الله أكبر .. الله أكبر " ، وارتفعت أصوات الرجال من مواقعها في الكمين وهي تردد الهتاف ... 

أصدرت أوامري لأفراد المهندسين العسكريين لتنفيذ خطة تلغيم تقاطع المدق 12  ، فاندفع سلطان ومحمد السيد وهما يحملان الألغام المضادة للدبابات ، وزحفا إلي المكان الذي حددته عند تسلمنا الموقع ، وقاما بدفن الألغام .. أعدت التأكيد علي أنني سأطلق الطلقة الأولي مشدداً علي عدم الإشتباك إلا بعد ذلك وعندما تدخل الدبابات في مرمي الآر بي جي ، وبالشكل الذي يدفع الدبابات للدخول في منطقة الألغام ... 

لا أتذكر ما الذي كنت أفكر فيه في تلك اللحظات الحاسمة ، ولكنني متأكد من أنني تيقنت أنها المعركة الأخيرة ، وتأهبت مع رجالي للإستشهاد ، ولكن ربما مرت في خاطري فترات التدريب في مدرسة الصاعقة ونحن نهتف : " تضحية ، فداء ، مجد " ، وربما تخيلت أمي وقد تلقت خبر إستشهادي ، وكنت قد أعددت رسالة قصيرة لها أطلب فيها ألا تحزن أو تبكي ، وأنني قد نفذت وعدي لله والوطن ، وأنني سأكون حياً أرزق عند ربي ... 

فوجئنا بدبابة إسرائيلية قد نجحت في المناورة بالإلتفاف البعيد والتسلل وأصبحت تحتل تبة خلف الكمين مباشرة ، رأيت قائد الدبابة الأشقر بوضوح ينظر حوله من برج الدبابة ، ولو أنه خفض نظره لأمكنه أن يرانا ، ويسحقنا بجنزير الدبابة .. ناديت بسرعة علي قاذف الآر بي جي القريب العريف محمد عبد الفتاح ، فزحف إلي حفرتي ، ثم تأهب حابساً أنفاسه لقذف تلك الدبابة .. كانت لحظات عصيبة ، فلو أخطأ محمد فأننا جميعاً سوف نلقي حتفنا ، لذلك أعددت قنبلتي اليدوية المضادة للدبابات ، بينما التفت محمد نحوي كي يأخذ أمر الإطلاق ثم أطلق قذيفته ... 

لقد مررت في الحرب بلحظات قد تبدو الآن عجيبة وغير معقولة ، وقد كانت تلك هي بعضها ، فعندما انفجرت الدبابة الإسرائيلية وتطايرت شظاياها في كل اتجاه ، هتف الجميع في سعادة :   " الله أكبر " ، بينما ظل العريف محمد في موقعه وهو يسألني عما إذا كان قد أصابها بالفعل ، فجذبته بسرعة كي نغير الموقع قبل أن تصلينا حمم الدبابات الأخري .. وكانت هناك بالفعل أربعة دبابات ومعها عربة نقل جند مدرعة تتجه إلينا ، ربما للقبض علينا ، ولم يكن أي منا علي استعداد كي يكون أسيراً ، وسرعان ما اصطدمت دبابة أخري بحقل الألغام فتوقفت وقد تحطم جنزيرها ولكنها واصلت إطلاق النار في اتجاهنا ، إلا أن مصطفي الحادي تمكن من إصطيادها بقذيفة آر بي جي ، ويبدو أن العدو جن جنونه ، فلم يكن يتوقع مقاومة في هذا الموقع ( وقد علمت بعد الحرب أن قواته كانت قد تجاوزت هذا الموقع ببعض كيلومترات ووصلت إلي طريق مصر السويس بالفعل ) ، وأنطلقت مئات القذائف من المدفعية والطيران التي تساقطت حولنا وفيما بيننا ، وبعد أن تمكنا من إصابة دبابة ثالثة تراجعت عربة النقل المدرعة إلي الخلف تحت وابل من رصاصنا ، ثم نفذت ذخيرتنا ... 

لقد استشهد نصف رجالي في هذه المعركة المستحيلة ، ودارت بعدها أحداث كثيرة ليس هذا محلها الآن ، وعندما عاد الباقون لم يكن أحد منهم يتخيل أنه لا يزال علي قيد الحياة ، فقد كان المشهد رهيباً وفي ظروف غير متكافئة ، اضطر فيها رجال الصاعقة الإشتباك في وضح النهار ومن خنادق ثابتة ... 

عندما وقفت علي طريق مصر السويس الصحرواي ومعي من تبقي من رجالي ، كانت شمس الثالث والعشرين من أكتوبر تغرب ، والإنفجارات تتوالي وسحابات كثيفة من الدخان تحلق في السماء ، التقيت بضابط كبير في أحد الأسلحة المعاونة وكان معه بعض أفراد من وحدته ، قال لي في حزن وهو يتأمل إلي الإتجاه الذي اخترقه العدو : " أن نكسة 67 تتكرر " .. ولا زلت أتذكر كيف هزتني تلك الجملة ، وكيف رددت عليه بالرفض مؤكداً أنه لو تمسكنا بكل شبر فلن نسمح للنكسة بالتكرار .. ووافقني ثم وافق علي اقتراحي بجمع كل الجنود الذين فقدوا قياداتهم ومعهم جنودنا ، وانهمكت طوال ليلة 24 أكتوبر في تنظيم خط دفاعي بالقرب من جبل عتاقة ..............

أتذكر ذلك الآن ، بعد مرور كل هذه السنوات ، وأتعجب من ذلك الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الحادية والعشرين من عمره ، كيف وقف في تلك الليلة الحاسمة وقد انقطعت اتصالاته بكل قياداته ، وأصبح فجأة يقود المعركة في تلك البقعة وحده ، ويملأه شعور جارف بمسئوليته عن حماية الوطن ، وشرف تراب الوطن .... 

لقد شاخت السنين ولكن هذه الذكريات لا تشيخ ، فهي تبقي لامعة متألقة ، ترسل إشعاعاتها عبر الأجيال ، وربما تكون منها الشرارة التي تنتقل إلي الشباب ، ورحم الله رجالي الشهداء ، وكل شهداء حروب مصر علي مر التاريخ ...


التعليقات (0)