- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
د. مدى الفاتح يكتب: ويستمر الطوفان
د. مدى الفاتح يكتب: ويستمر الطوفان
- 31 أكتوبر 2023, 9:12:16 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
المناصرون للقضية الفلسطينية، وهم كثر في داخل وخارج العالم العربي، يتوزعون بين مشاعر متناقضة، فمع الإحساس بأهمية عملية «طوفان الأقصى»، التي يشبهها كثير منهم بالعبور المصري في حرب أكتوبر 1973 إلا أن هناك شعورا آخر بالقلق حول التكلفة الإنسانية للانتقام الإسرائيلي، الذي يتوجه بشكل أساسي نحو المدنيين، والذي يحظى بدعم غالب المنظومة الغربية.
كانت عملية السابع من أكتوبر صادمة في توقيتها وفي نتائجها. من ناحية التوقيت كانت قد جاءت في وقت عم فيه السكون والتهدئة، والانشغال بالهموم اليومية، حتى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وتمدد الاحتلال في الاستيطان وفي الاستيلاء على الأراضي، كانت تبدو أمورا رتيبة تمر في الغالب من دون رد فعل. من ناحية النتائج أكد العبور الجديد، والتوغل في مساحات واسعة وصلت تهديد مناطق حيوية، أن السياج الأمني والقدرات الاستخباراتية، التي يتفاخر الكيان بامتلاكها، لا تضمن سلامته بشكل كامل، وأن بإمكان مجموعة من المقاتلين الهواة، ان يحققوا اختراقات استراتيجية داخل أماكن كان يظن أنها آمنة.
عدد القتلى في الجانب الإسرائيلي غير مسبوق، ولم يسبق لأي عملية فلسطينية، خلال التاريخ الحديث، أن حققت هذا القدر من الخسائر البشرية والمادية في جانب الاحتلال في هذا الوقت القصير. في المقابل، فإن عدد من ارتقى من الفلسطينيين حتى وقت كتابة هذا المقال كان يزيد عن الثمانية آلاف، أكثرهم من الأطفال.
أهم ما حققته عملية الطوفان هو تذكير العالم بالمأساة الفلسطينية، وبأن هناك شعبا ما يزال يعيش تحت الاحتلال في القرن الحادي والعشرين محروما من أبسط حقوقه
يجمع المراقبون على أن أهم ما حققته عملية الطوفان هو تذكير العالم بالمأساة الفلسطينية، وبأن هناك شعبا ما يزال يعيش تحت الاحتلال في القرن الحادي والعشرين محروما من أبسط حقوقه، هذه الحقيقة البسيطة كان مقدرا لها أن تنسى مع مرور الأيام، وأن تتم إذابة الفلسطينيين، سواء في دول الجوار القريب، أو حتى في نسيج الدولة، التي قامت على أرضهم. بعد تضييع الوقت عبر اتفاقيات سلام فضفاضة ومفاوضات امتدت لعقود، جاءت المرحلة الثانية من «تسوية» القضية، التي كان التطبيع أهم عناوينها. كان مقدرا أن تبدأ «إسرائيل» بالتحرك بحرية كدولة ضمن دول المنطقة، وأن تبدأ علاقة جديدة مع الدول العربية، التي بدأ عدد منها بالفعل خطوات التنسيق من أجل إعلان عهد الاعتراف بدولة الأمر الواقع، التي صارت جزءا من جغرافيا المكان. «طوفان الأقصى» أوضح أنه، وعلى الرغم من الإغراءات، إلا أن الفلسطينيين، الذين تأكدوا من خذلان العالم، عادوا للتشبث بموقفهم القديم الرافض للاستسلام لضغوط الواقع، والجاهز للتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل قضيتهم. على وقع الأحداث تجدد، في فلسطين وفي عموم العالم العربي، مرة أخرى الخطاب، الذي ينظر لـ»إسرائيل» كمجرد سلطة احتلال مؤقتة وزائلة مهما طال الزمن، وهو خطاب لم يستطع، حتى أقوى المتحمسين للتطبيع، مجابهته أو الرد عليه. «الطوفان» أعاد للقضية الفلسطينية رونقها من جديد، وأظهر أن لاءات الوطنيين الفلسطينيين الرافضين للتذويب والتهجير والاعتراف، لا تزال قائمة، كما أظهر انحياز الجماهير لخيار المقاومة.
في ظل هذه المستجدات والمتغيرات يصبح التفكير في استئناف مسار التطبيع، وكأن شيئا لم يكن، صعبا. الوحشية الإسرائيلية وإجراءات العقاب الجماعي، التي تم تفعيلها، مثل قطع المياه والخدمات عن القطاع، جعلوا ذلك أمرا غير ممكن. التعامل الإسرائيلي مع هبة الغضب الفلسطينية، خاصة استهدافه المدارس والمستشفيات بحجة تحصن مقاتلين من «كتائب القسام» فيها، أضاع جهود عقود طويلة من تحسين صورة الكيان، كبلد ديمقراطي متحضر وسط غابة من المتربصين والإرهابيين. لم يكسب المقاوم الفلسطيني قلوب الشعوب في المنطقة العربية وحدها، ولكنه كسب احترام كثير من الدول، التي لم تتأثر بالدعاية الغربية، كجنوب افريقيا، التي أعلنت موقفا مساندا وقويا للحقوق الفلسطينية، معتبرة أن السبب في كل هذه المأساة هو الاحتلال. جنوب افريقيا ليست وحدها، فحينما سمع ألفارو ليفا وزير الخارجية الكولومبي وصف وزير الدفاع الصهيوني المستفز للفلسطينيين بـ»الحيوانات» علق قائلا في منشور له، إن هذا كان وصف النازيين لليهود. المفارقة هي أن هذه المنشور أزعج الإسرائيليين، الذين يتمتعون بعلاقة جيدة مع كولومبيا، لحد التسبب في أزمة دبلوماسية بين البلدين. نجح «الطوفان» في تقديم رسالة أخرى للمحتل مفادها أنه لن يكون آمنا في المساحات، التي اغتصبها، وأن المعادلة المشوهة، التي تجبر الفلسطينيين على تحمل الذل والقهر والحصار، والتي تجعل السلام المنشود هو سلام ورفاهية الإسرائيلي فقط، هي في طريقها لأن تتغير، حيث يعلم المستوطنون اليوم أنه لا يمكن لأي مؤسسة عسكرية أو أمنية أن تحدد موعد الضربة المقبلة، أو مكانها أو أن تدعي سد جميع الثغرات. هذا معناه أن يعيش الغرباء والمستوطنون، إن أصروا على البقاء، تحت التهديد الدائم. يتساءل الإسرائيليون اليوم عن مصير الأسرى، الذين أخذتهم «حماس»، والذين لا يملك أحد أن يضمن سلامتهم في ظل القصف العشوائي، الذي يمارسه جيش لا يفكر سوى في الانتقام. عائلات الأسرى تأمل أن تنجح جهود الوساطة القطرية في التهدئة، وفي الوصول إلى صفقة تحرير مناسبة، لكن القيادة السياسية تبدو مهتمة بحفظ ماء وجهها عبر التوسع في الضربات العشوائية، وتحقيق أكبر قدر من الخسائر أكثر من اهتمامها بسلامة المحتجزين.
في هذه اللحظة تجري حرب مساحات، حيث تتوسع عمليات المقاومة خارج غلاف غزة، ما يدفع الآلاف من المستوطنين للسفر أو النزوح إلى مناطق أخرى في الداخل. في المقابل يستهدف توحش الآلة العسكرية الإسرائيلية خلق أوسع مساحة فاصلة داخل قطاع غزة. عملية الاجتياح البري كانت تطمح للتخلص من أكبر قدر من السكان، إما بالقتل أو بدفعهم إلى خارج القطاع، بطريقة تحل المشكلة الأمنية بشكل نهائي، لكن الواقع العسكري أثبت أن المسألة هي أعقد مما كانوا يظنون.
يشعر الاحتلال بالحصار أكثر من أي وقت مضى.. الجنود يتهربون من الخدمة وصواريخ المقاومة لا تتوقف، وكذلك يظهر تلويح متزامن بإشعال الجبهة الشمالية، فيعم القلق من تدخل إيراني بشكل أو بآخر في المعركة. تتحرك الآلة العسكرية المنهكة محاولة تغطية كل الثغرات، في حين تحاول القوات الأمنية خنق الحراك المتعاطف مع «الطوفان» في الضفة المحتلة، عبر اعتقال لأعداد وصلت لقرابة الألفي شخص.
أحداث غزة وضعت العالم أمام ضميره، ونتجت عنها تصدعات داخل البنية السياسية الإسرائيلية، وداخل مراكز صنع القرار الغربية.. في تل أبيب يتم انتقاد أداء حكومة نتنياهو، في حين تطالب صحيفة «هآرتس» بإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين كحل. أما في الغرب فيتزايد عدد المنتقدين من السياسيين، ومن رموز المجتمع للانحياز الأعمى لجانب الاحتلال. التظاهرات المساندة لفلسطين صارت أكبر من أن تمنع والإعلام الكاذب فقد القدرة على «التغطية». بعد أسابيع من الجرائم الإسرائيلية يتزايد عدد المؤثرين العالميين الذين خرجوا عن صمتهم، فقبل أيام غردت الممثلة أنجلينا جولي مسلطة الضوء في عباراتها على الوضع الإنساني الكارثي لسكان غزة، وعلى أن عملية «حماس» لا يمكنها أن تبرر استهداف المدنيين. في فرنسا كتبت صحيفة «لوموند» عن الخلافات حول الحرب داخل فريق الرئيس إيمانويل ماكرون. من المعروف أن من «الماكرونيين» من يساند الكيان بشكل مطلق، كسليفان ميلارد، الذي اقترح قبل سنوات تفعيل قانون يربط نقد الصهيونية باللاسامية.
كاتب سوداني